
في الشرق القديم، حيث وُلدت معظم الأسئلة الكبرى عن الخلق والمصير، نشأت ديانات لا تزال آثارها ممتدة حتى اليوم رغم أن أعداد أتباعها باتت قليلة.
ومن بين هذه الديانات تبرز الزرادشتية والصابئة المندائية، وهما ديانتان ارتبطتا بالحضارات الفارسية والرافدية، وتقاطعت أفكارهما مع الأديان الإبراهيمية التي جاءت بعدها.إنهما ديانتان قديمتان على هامش الذاكرة ولكنهما في قلب التاريخ.
الزرادشتية… من نارٍ لا تُعبد ونبيّ مجهول الملامح
تُنسب الزرادشتية إلى النبي الفارسي زرادشت، الذي عاش قبل الميلاد بقرون طويلة.تقوم ديانته على الإيمان بإله واحد أعلى هو أهورا مزدا، إله النور والخير، في مواجهة مبدأ الشر المسمى أهريمان.أما النار التي يلحقها الكثيرون بالمجوس، فليست معبودة، بل رمز للطهارة والحق.ويُعتقد أن بعض الأفكار التي ظهرت في اليهودية المتأخرة ـ كالملائكة، والشيطان، والقيامة، والحساب ـ تأثرت بالأجواء الروحية للفترة الفارسية عقب السبي البابلي.وفي الإسلام، ورد ذكر المجوس في القرآن مرة واحدة، وأمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمعاملتهم معاملة «أهل الكتاب»، وهو ما منحهم اعترافًا خاصًا في الدولة الإسلامية الأولى.
الصابئة… ديانة الماء والنور
أما الصابئة المندائيون فهم من أقدم التيارات التوحيدية في المنطقة، وينتشرون تاريخيًا في جنوب العراق والأحواز، ويؤمنون بـ إله واحد يسمونه الحي العظيم.ويعدّون يحيى بن زكريا آخر أنبيائهم، وتُشكّل المعمودية بالماء الجاري حجر الأساس في طقوسهم اليومية.
كما أن لديهم كتبا مقدسة أبرزها الكنزا ربا، وتاريخ ديني متصل بالديانات الرافدية القديمة، لكنه يحمل أيضًا عناصر مشتركة مع اليهودية والمسيحية في تصور الخلق والملائكة واليوم الآخر.
وورد ذكر “الصابئين” في القرآن ثلاث مرات بوصفهم جماعة دينية قائمة، واعتبرهم المسلمون عبر القرون قريبين من أهل الكتاب.
نقطة التقاء مع الأديان الإبراهيمية
وعلى الرغم من الاختلاف الكبير بين الزرادشتية والصابئة، فإن كلاهما يحمل عناصر مشتركة مع اليهودية والمسيحية والإسلام، مثل:• الإيمان بإله واحد أعلى• الاعتقاد بالملائكة والعالم الروحاني• تصور يوم القيامة والحساب• وجود كتب مقدسة وتعاليم أخلاقيةكما أن التفاعل التاريخي بين الحضارات الفارسية والرافدية والشامية ترك أثره على تطور الفكر الديني قبل ظهور الأديان الإبراهيمية، ما جعل المنطقة بوتقة روحية واحدة تتقاطع فيها الأساطير والرؤى والمفاهيم.
واليوم، يقف أتباع الزرادشتية والصابئة كأقليات صغيرة، لكن تأثير دياناتهم يظل حاضرًا في التراث الإنساني.فهذه الديانات ليست مجرد صفحات قديمة، بل جزء من السلسلة الطويلة التي شكّلت وعي الإنسان وسعيه لفهم العالم.وقد أدرك الإسلام هذا التراث عندما منح المجوس والصابئة مكانة خاصة، تقديرًا لعمقهم الروحي وامتدادهم التاريخي.







