
في عالمٍ تتصاعد فيه موجات العنصرية والاستقطاب والكراهية، وتُختزل فيه الصراعات السياسية في هويات دينية أو عرقية ضيقة، جاء موقف أحمد الأحمد في تصديه لاعتداء استهدف مدنيين يهود ليقدّم رسالة مركّبة تتجاوز الحدث ذاته، وتفتح أفقًا أخلاقيًا وسياسيًا وحضاريًا أوسع. لم يكن ما فعله مجرّد تصرّف فردي شجاع، بل موقفًا كاشفًا عن قيم الإسلام، كما يضع الإنسانية في مواجهة العنصرية، ويعيد تعريف الصراع بعيدًا عن منطق الانتقام الأعمى.
إن الاعتداء على المدنيين، أيًّا كانت ديانتهم أو خلفيتهم، لا يخدم قضية عادلة ولا ينتصر لمظلومية حقيقية. بل على العكس، يضرب في العمق موجة التعاطف الشعبي الغربي غير المسبوقة مع القضية الفلسطينية، تلك التي كشفت زيف الرواية الصهيونية وعرّت ازدواجية المعايير، ووضعت إسرائيل في موقع المتهم أخلاقيًا أمام الرأي العام العالمي.
ومن هنا، فإن أي اعتداء على مدنيين يهود في الغرب لا يصب إلا في مصلحة نتنياهو ومصلحة استعادة الصهيونية لمواقع نفوذها المتآكلة، ويمنحها ذريعة للهروب من مأزقها التاريخي الأخلاقي والسياسي.
في هذا السياق، يكتسب موقف أحمد الأحمد دلالته الأعمق؛ فهو لم يدافع عن “يهودي” بوصفه يهوديًا، بل عن إنسانٍ أعزل بوصفه إنسانًا. وهذا هو الفارق الجوهري الذي تحاول الصهيونية طمسه، عبر الخلط المتعمّد بين اليهودية كدين، والصهيونية كمشروع استعماري عنصري.
لقد أعاد هذا الموقف التذكير بحقيقة قرآنية جليلة طال تغييبها: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾. وهي آية تؤسس لميزان أخلاقي واضح: العدل والتضامن والحماية للإنسان، لا للمشروع الظالم.
سياسيًا، وجّه هذا الموقف صفعة مزدوجة: للعنصرية المتنامية في بعض المجتمعات الغربية، وللخطاب الصهيوني الذي يحاول احتكار “الضحية” وتوظيف الكراهية. حضاريًا، أعاد الاعتبار للقيم الإسلامية الكونية بوصفها مجالًا للتلاقي لا للصدام، وذكّر بأن الإسلام – في جوهره – لا يبرر العدوان، بل يحرّمه.
لم يكن موقف الأحمد دفاعًا عن خصم، ولا تنازلًا عن قضية، بل دفاعًا عن جوهر القضية نفسها: العدل، وحرمة الدم، وكرامة الإنسان. وهو بذلك رسالة للإنسانية، وإحراج للعنصرية، وتأكيد أن الصراع الحقيقي ليس بين أديان وشعوب، بل بين الحق والقوة، وبين العدالة والهيمنة.
وفي زمن تختلط فيه الأصوات، يبقى هذا الموقف علامة فارقة: يفضح الكراهية، ويُحرج العنصرية، ويؤكد أن أمةً تحمل هذا الميزان الأخلاقي لا تزال قادرة على تقديم ما غاب عن العالم، وأن تكون في القلب لا على الهامش، بل تكون قيمها في مقدمة معارك العالم الأخلاقية الكبرى.







