
اجابه سؤال من يحكم مصر،لا يُختصر في اسم.
اجابه السؤال تبدأ حين نسأل: كيف صارت السلطة معنى، وكيف تحوّل المعنى أحيانًا إلى قيد.
مصر لا تُحكم بالخرائط وحدها، بل بالذاكرة، ولا تُدار بالهتاف فقط، بل بالعقد الاجتماعي غير المكتوب بين الحاكم والمحكوم. هنا، لا نحصي عصورًا، بل نُنصت لوجوهٍ لا تغيب؛ وجوهٍ كشفت لنا، عبر الزمن، لماذا أحبّ المصريون وطنهم حينًا، ولماذا ارتبك هذا الحب حينًا آخر.
قبل الدولة، وُلدت الفكرة.
نهرٌ يُعلّم الناس الاستقرار، وطميٌ يصوغ معنى الجماعة، وسماءٌ تُقنع الإنسان بأن النظام ممكن. لم تكن الأسماء مؤكدة، لكن الوعي حفظ رموزًا: العقرب، نعرمر، إشاراتٌ إلى لحظة التوحيد الأولى. السلطة يومها كانت وعدًا لا سيفًا؛ وعدًا بأن الاختلاف يمكن أن يصير وحدة، وبأن الجغرافيا تُصبح وطنًا حين تُدار بالعدل.
مع الفراعنة، لبست الدولة حجرًا، وارتدى الحكم قداسة المسؤولية.
مينا وحّد ليؤسّس، زوسر بنى ليخلّد، سنفرو مهّد، خوفو وخفرع ومنقرع رفعوا المعمار إلى مقام الفكرة. أحمس حرّر فاستعاد الكرامة، حتشبسوت حكمت بعقل الدولة لا بعُرف السلالة، تحتمس الثالث أدرك أن القوة بلا رؤية توسّع الحدود وتُضيّق الإنسان، إخناتون حَلِم بإصلاحٍ روحيٍّ فدفع ثمن العزلة، توت عنخ آمون أعاد التوازن، رمسيس الثاني كتب السياسة على جدار التاريخ، ونختنبو الثاني أغلق سِفر الحكم المصري الأصيل قبل أن يفتحه الغرباء. هنا تعلّمت مصر أن الخلود ليس في التماثيل، بل في العدل.
الغزاة تعاقبوا، والهوية صمدت.
الفرس حكموا بالنيابة، الإسكندر مرّ كبرقٍ فاتن، البطالمة أقاموا كحكّامٍ غرباء بلسانٍ يوناني وقلبٍ مصريٍّ مُستلب، وكليوباترا حاولت إنقاذ الدولة بالدبلوماسية حين خذلتها السيوف. الرومان والبيزنطيون جعلوا مصر مخزن قمح الإمبراطوريات، لكنهم لم ينتزعوا منها روحها. السلطة حين انفصلت عن الناس صارت إدارة، لا حكمًا.
مع الإسلام، عاد المعنى إلى المركز.
عمرو بن العاص فتح، ثم اختبرت مصر أشكال الحكم: ولاة، ودول، واستقلالات متقطّعة. أحمد بن طولون أدرك مبكرًا أن السيادة مشروع، الفاطميون بنوا عاصمة للفكرة قبل الحجر، الحاكم بأمر الله قدّم درسًا قاسيًا في خطورة القداسة حين تُطلِق يد السلطة، صلاح الدين وحّد وحرّر ليصنع دولة، والمماليك حرسوا الجغرافيا حين تكسّرت الممالك من حولها. السياسة هنا كانت امتحانًا أخلاقيًا دائمًا: سيفٌ يحمي، أو سيفٌ يحكم؟
الحكم العثماني أعاد مصر إلى خانة الولاية، ثم جاء محمد علي باشا ليعيد تعريف الحكم بوصفه مشروع تحديث.
بنى جيشًا، أطلق تعليمًا، أسّس دولة، لكنه فتح أيضًا سؤال الحرية المؤجّلة. إسماعيل حلم بدولة أوروبية بديون شرقية، فؤاد حكم بالرمز، فاروق سقط حين انفصل القصر عن الشارع. الدولة تقدّمت، والحرية انتظرت.
الجمهورية فتحت باب الأمل والقلق معًا.
محمد نجيب أراد دولة مدنية بزيٍّ عسكري، عبد الناصر صاغ مشروع عدالة اجتماعية وسيادة وطنية، لكنه قيّد السياسة باسم المعركة الكبرى. السادات غيّر الاتجاه وفتح الاقتصاد و وارب السياسة، مبارك أطال الزمن حتى صار الزمن حاكمًا، مرسي جاء بالانتخاب وخرج بالصراع، عدلي منصور ناقل امين، والسيسي يحكم في زمن تتنازع فيه الدولة صورتها بين أمنٍ مُطلَق وحريةٍ مُؤجَّلة.
و هنا يطرح السؤال نفسه :
هل نحن مواطنين ام رعايا؟
هل تحمي الدولة مواطنيها أم تحكمهم؟
مصر لا تختصرها أسماء، لكنها تُكشَف بهم. حين كان الحكم عقدًا، أحبّ المصريون وطنهم بلا تردّد. وحين صار الحكم غلبة، تراجع الحب خوفًا، واليقين شكًّا. الليبرالية السياسية ليست ترفًا لغويًا، بل ضمانة بقاء؛ إصلاحٌ يضع الإنسان قبل الجهاز، والحق قبل القوة، والدستور قبل المزاج. الحرية ليست ضد الدولة، بل شرطها.
هذه ليست محاكمة للتاريخ، بل قراءة له بعينٍ حرّة.
مصر جاءت أولًا، ثم جاء التاريخ. وكل حكمٍ لا يتعلّم هذه الحقيقة يمرّ… وتبقى الوجوه التي لم تغب.







