
اشتدت عليهم المِحنة وبعدت عليهم الشقة وتأخر النصر فذهبوا إلى حكيم القرية يستفتونه فقال لهم: “أنا لا أعلم كثيرا عن سرّ الإله، لكنني أعلم الكثير عن بؤس وشقاء الإنسان”. لم يجتهد الحكيم فيما لا طاقة له به، وعلّق الحكم بحق تصرفات الأقدار وما تفعله بالبشر، لكنه في المقابل أشار إلى بؤس الإنسان الذي قد يكون هو السبب فيما هو فيه من شقاء، وأنه وحده علّة تأخر رفع البلاء بظلمه وجهله.
صفعات الأقدار رسائل وإشارات قبل أن تكون عقوبات وغضب، ومن يُخرج الأقدار من معادلة أى صراع فقد أخطأ التشخيص، وبالتالي سوف يضل طريق العلاج، إن لله مراد وللناس غاية؛ مراد الله التمحيص وتمييز الخبيث من الطيب لأن النصر ليس على الله بعزيز، وغاية الناس النصر والتمكين ظنا منهم أنهم يستحقونهما كونهم أبناء العقيدة الحقّ والطريق المستقيم، وهؤلاء فاتهم شيء أن القدر لا يُحابى الجهلاء والكسالى والمتنطعون، ولا يعامل الناس بمبدأ العاطفة بل يعاملهم بمبدأ الاستحقاق والأهلية، فمن أخذ بأسباب السعى والقوة علا وتمدد، ومن تواكل وارتكن إلى قصص الأولين وردد آيات المرسلين لن يحالفه النصر والتمكين، وإن دعا وسجد ورتل وتبتّل.
في الحرب العالمية الثانية قالوا لهتلر مع مَن سيقف القدر: قال: مع صاحب المدفع الأقوى فحقق نصرا كبيرا في أول المعركة، وعندما خار عزمه وضعفت قوته ودارت عليه الدوائر بسبب سوء تقديره وغطرسته، قال: لقد انتقل إله الحرب إلى الضفة الأخرى، هكذا نظر هتلر بمنظور القوة والإعداد والتجهيز الجيد، نظرة مادية بحته قد تكون صائبة لمن جمعهم نفس المنطق في الحروب.
لكن بالنسبة لنا كمسلمين الإعداد الجيد يبدأ من داخل النفوس قبل الجيوش، يبدأ من تطبيق الآيات بدلا من ترديدها وتعليقها كتمائم تحفظنا من الحسد والسحر، يبدأ من الاشتباكات الصادقة المتجردة مع قضايا الأمة والتخلص من الشخصنة والاتهامات المعلبة والمرسلة لكل مخالف أو مستقل، يبدأ من الانتقال من منطق الكلام والتنظير إلى منطق الحراك والعمل، الإعداد يبدأ من التخلص من المثبطين ومن يرون السلطة مأثرة ومنظرة وسيادة، فيسلبون وينهبون ويكنزون ويماطلون ويظلمون، بدلا من القيام بحقها في نصره الأمة والذود عن عرضها وأرضها، فتكبر بالسلطة رذائلهم بدلا من تعزيز فضائلهم وإنكار ذواتهم في خدمة القضايا العادلة.
يكون الله معنا عندما لا تتبدل المواقف بتغير المواقع، فإن عارضت مصلحتي قضية انقلبت عليها وشيطنتها وإن كانت عادلة، وإن جلبت علىّ المال والنفوذ ناصرتها ودافعت عنها وإن كانت باطلة، يكون الله معنا عندما يعيش الناس لمبدأ شريف وغاية نبيلة، يكون الله معنا عندما نلفظ الغثاء ونقدم الأكفاء، وإلا كيف يهدى الله قوما تولى أمرهم أضعفهم؟ كيف ينصر الله قوما لا يأخذون لضعيفهم من قويهم حقه؟ كيف يقف الله مع قوم لم يطبقوا العدل أولا فيما بينهم، ومع ذلك يطلبونه من غيرهم، كيف يعدل الناس فيكم وأنتم لم تعدلوا بين أنفسكم؟ فلا نصر مع بغى ولا تمكين مع جهل، وشتان بين من يُثقل بهم الحق ومن يُثقل الحق بهم، كيف يكون الله معنا وأنت ترى كيانات هى في حقيقتها هياكل فارغة، تتخذ من آليات التشويه والكذب درعا كى لا تنهار تحت ثقل فشلها وجراح أفرادها وبوار أرضها، أولئك الذين ألحقوا بأنفسهم الهزائم أكثر مما ألحقها بهم غيرهم.
الإعداد النفسي الجيد هو ركيزة النصر والحلقة المفقودة التي يبحث عنها الجميع بين ركام التنظير والجدل وتسقّط مثالب المخالفين، وكل نصر مستحق مرده إلى التجهيز النفسي المستمد من عقيدة وإيمان راسخين، والتاريخ يعلمنا أن العقائد الصادقة التي يحملها رجال بحق، تهزم أعتى الجيوش وإن اختلت موازين القوى، في النهاية لن يكون الله معنا إلا بقدر ما نكون معه.







