مقالات وآراء

المعتصم الكيلاني يكتب : العقوبات الأمريكية على القضاة في المحكمة الجنائية الدولية

في 18 ديسمبر 2025، أعلنت الولايات المتحدة عبر وزير الخارجية ماركو روبيو فرض عقوبات على قاضيين في المحكمة الجنائية الدولية (ICC) بسبب مشاركتهما في قرارات قضائية تتعلق بالتحقيق في جرائم حرب مزعومة ارتكبتها إسرائيل في غزة، ورفضهما تعليق التحقيقات أو إبطال أوامر التوقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.

العقوبات تشمل حظر دخول الولايات المتحدة، تجميد الأصول ومنع التعاملات المالية معه، وتأتي تنفيذاً لأمر تنفيذي أصدره الرئيس الأمريكي في فبراير/شباط 2025 بموجب الأمر التنفيذي رقم 14203، الذي يسمح بفرض عقوبات على من يساهم في تحقيقات ICC التي تستهدف مواطني الولايات المتحدة أو حلفاء لها. 

الأساس القانوني للقرار الأمريكي والنقد الموجه له


من منظور واشنطن، تستند العقوبات إلى فكرة أن المحكمة تفتقر للولاية القانونية على الولايات المتحدة وإسرائيل، لأنهما ليسا طرفين في نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة، وبالتالي فإن أي تحقيق بحق مواطنيهما يُعد انتهاكاً لسيادتهما.

لكن من منظور القانون الدولي العام:


تُعد السيادة والحصانة مفاهيم محورية، لكنها لا تلغي سلطة المحكمة على أعضاء نظام روما الأساسي ولا تعفي المحكمة من مسؤوليتها بمقاضاة من يشتبه في ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
التعسف في تفسير الولاية القضائية ليلائم مصالح سياسية يُفقد القرارات القضائية مشروعية القانون الدولي الذي يسعى لتطبيقه بمبدأ عدم الانحياز.

في هذا السياق، يبدو واضحًا أن العقوبات ليست إجراءً قضائيًا مستندًا إلى نص قانوني دولي، بل خطوة سياسية لمعاقبة قضاة أدوا واجبهم وفق الإطار القانوني للمحكمة. هذا يضعف حجج واشنطن التي تدّعي احترام القانون الدولي بينما تسعى لإبطال آليات تنفيذ العدالة عندما تتعارض مع أهدافها الاستراتيجية.

ردود الفعل الدولية: استقلالية القضاء الدولي تحت تهديد جسيم


المحكمة نفسها وصفَت العقوبات بأنها “هجوم صارخ على استقلال القضاء الدولي”، معتبرة أنها تهدد مصداقيتها ونظام المساءلة العالمي.

ولم يتوقف النقد عند حدود المؤسسة القضائية، بل امتد إلى مؤسسات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان؛ إذ أعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن قلق بالغ من تأثير العقوبات على عمل المحكمة، مؤكدًا أن استقلال القضاء ركيزة أساسية للعدالة الدولية. 

كما ناشدت منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي التصدي لهذه الضغوط، محذرة من تراجع نظام العدالة الجنائية الدولية في حال ترك المحكمة تتعرض لمثل هذه العقوبات دون دعم دولي قوي. 

تأثير العقوبات على العدالة الدولية


من الناحية العملية، تترك هذه العقوبات أثرًا عميقًا على العدالة الدولية بعدة أبعاد:

أولاً: تقويض استقلال القضاء الدولي


عندما تستخدم دولة عظمى الضغوط الاقتصادية والسياسية لمعاقبة قضاة على قرارات قضائية، فإنها تخلق سابقة خطيرة تقوض إحدى الركائز الأساسية للعدالة الدولية، وهو فصل السلطات وعدم التأثير الخارجي على القضاة. إذا أمكن الضغط على قضاة المحكمة الجنائية الدولية، فكيف يمكن ضمان عدم تأثير القوى السياسية على قراراتهم؟

ثانياً: إضعاف آليات المساءلة الجماعية


العدالة الدولية تعتمد على آليات تُبنى عبر عقود من الاتفاقيات والمعاهدات، وكان نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية من أبرز هذه الإنجازات. الضغوط السياسية التي تستهدف قضاة المحكمة تؤدي إلى تفكيك هذا النظام التدريجي، مما يجعل المحاكم الدولية أكثر عرضة للهيمنة السياسية بدلًا من المصالح القانونية للضحايا.

ثالثاً: تأثير ملموس على الضحايا والمجتمعات المتضررة


تكمن أهمية المحكمة الجنائية الدولية في توفير ملاذ أخير للضحايا الذين لا تجد قضيتهم محاكم وطنية عادلة. ضغط الولايات المتحدة – التي تمتلك نفوذاً مالياً وسياسياً هائلًا – من شأنه أن يجعل ضحايا الجرائم الدولية أقل قدرة على المطالبة بالعدالة، ويعطي انطباعًا بأن القوة السياسية تُلبّي الحماية أكثر من القانون نفسه.

خاتمة: بين القانون والسياسة — العدالة الدولية في مفترق طرق


العقوبات الأمريكية الأخيرة ليست مجرد إجراء ثانوي في صراع سياسي، بل تحدٍ مباشر لمبادئ العدالة الدولية. فهي تضع السلطة السياسية فوق القانون الدولي، وتشكّل تهديدًا واضحًا لاستقلالية المحاكم الدولية وقدرتها على محاسبة القوى الكبرى عندما تنتهك القانون الإنساني الدولي.

في عالمٍ يسعى إلى إحلال السلام والمساءلة، يجب ألا يتحول نظام العدالة الدولية إلى ساحة معركة سياسية تُستخدم فيها الآليات القانونية كورقة ضغط. إنّ حماية هذا النظام واستقلاله ليس فقط مصلحة قانونية، بل ضرورة إنسانية لضمان أن لا يفلت أحد من المساءلة — بغض النظر عن قوته أو نفوذه

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى