
في الوقت الذي تتصاعد فيه الدعوات إلى إصلاح سياسي شامل، تحتل الأحزاب مكانة محورية بوصفها الجسر الطبيعي بين المجتمع والدولة، ومختبرًا لإنتاج النخب والأفكار والبرامج، غير أن كثيرًا من محاولات الإصلاح تصطدم بعوامل داخلية لا تقل خطورة عن القيود الخارجية، أبرزها ما يمكن تسميته بـ”النرجسية السياسية”، تلك الظاهرة التي تتجاوز كونها سلوكًا فرديًا لتصبح نمطًا ثقافيًا وتنظيميًا يعرقل التطور الطبيعي للحياة الحزبية.
النرجسية السياسية هنا لا تعني شخصًا متعاليًا أو محبًا للظهور فحسب، بل تشير إلى حالة يتحول فيها الحزب من إطار للعمل الجماعي إلى ساحة صامتة لصراعات المكانة والرمزية، يصبح الهدف غير المعلن هو الحفاظ على المواقع لا تعزيز الفكرة،
والدفاع عن المساحة الشخصية لا تطوير المشروع السياسي، ومع مرور الوقت تتقلص البنية الداخلية للحزب، ويتعطل دوره كمجال طبيعي للتجديد والاختلاف والإبداع.
وفي هذا السياق لا تتجلى النرجسية السياسية فقط في التمسك بالمواقع، بل في صناعة صورة ذهنية للقيادة بوصفها المعيار الوحيد للصواب، حيث يُنظر إلى الحزب باعتباره امتدادًا لشخص أو مجموعة ضيقة، لا ككيان مستقل، يصبح الاعتراف بالخطأ عبئًا،
ويُفسر النقد باعتباره استهدافًا، ويُعاد تعريف “الانضباط الحزبي” ليعني الصمت لا المشاركة، والولاء لا الكفاءة.
تبدأ جذور هذه الظاهرة من الثقافة الداخلية ذاتها، ففي بعض الأحزاب تتراجع القيم الديمقراطية أمام نزعات فردية تجد بيئة مناسبة للنمو في ظل غياب لوائح واضحة أو آليات تداول حقيقية للأدوار، وعندما تتحول المواقع التنظيمية إلى “حقوق مكتسبة”، تصبح أي محاولة لإعادة توزيع الأدوار أو ضخ دماء جديدة أقرب إلى تهديد وجودي يُستقبل بالحذر أو الرفض،
وهنا ينشأ ما يشبه “الأسرة السياسية المغلقة”، حيث يظل الأشخاص أنفسهم في الواجهة مهما تغيرت الاحتياجات أو الظروف.
وتبرز النرجسية السياسية كذلك في طريقة إدارة الحوار الداخلي. فعندما يصبح النقاش مقيداً باعتبارات شخصية، تتقلص مساحة الأفكار وتتضخم مساحة الحساسيات، ويتركز الجهد على من قال لا على ماذا قيل، وتتحول الخلافات التنظيمية البسيطة إلى معارك هوية تستنزف الوقت والطاقة، وتضعف قدرة الحزب على إنتاج مواقف متماسكة أو مبادرات مؤثرة،
وفي كثير من الأحيان يسود منطق الحساسية المفرطة تجاه النقد ويجري تضخيم الاختلافات، وأحيانًا استخدام التسريبات أو الشائعات غير المعلنة كوسيلة لإضعاف الخصوم الداخليين، بدلًا من إدارة الخلاف بشكل مؤسسي، وهو سلوك يعكس خوفًا عميقًا من فقدان السيطرة أكثر مما يعكس حرصًا حقيقيًا على وحدة الحزب.
وللنرجسية السياسية آثار ملموسة على مسار الإصلاح داخل الأحزاب، فهي تعطل تجديد الهياكل، وتضعف مشاركة الشباب، وتخلق فجوات متزايدة بين القيادة والقاعدة. كما تُحول الحزب إلى كيان يكرر ذاته بدلًا من تطويرها، وقد يصل الأمر إلى إقصاء أي صوت يطالب بالتغيير،
ليس لأنه يفتقد المنطق، بل لأنه يهز توازنات غير مكتوبة يتمسك بها البعض بوصفها ضمانًا للاستمرار في المشهد السياسي، ومع الوقت تبدأ الكفاءات الحقيقية في الابتعاد، إما يأسًا أو تجنبًا للصدام، ليحل محلها مزيد من الجمود والتكلس.
المشكلة هنا لا تكمن فقط في غياب الديمقراطية الداخلية، بل في ذهنية ترى الحزب ملكية معنوية لا فضاءً عامًا، وتتعامل مع التجديد بوصفه خطرًا لا فرصة، وبهذا المعنى يفقد الحزب قدرته الطبيعية على تمثيل المجتمع، لأن بنيته الداخلية لم تعد تسمح بتدفق الأفكار أو تطور الأدوار.
ومع ذلك لا ينبغي النظر إلى النرجسية السياسية باعتبارها مرضًا دائمًا أو قدرًا محتومًا، بل باعتبارها ظاهرة يمكن احتواؤها إذا توفرت الإرادة التنظيمية، فالأحزاب التي تمتلك لوائح واضحة، ونظامًا حقيقيًا لتداول المهام، ومساحات فعلية للمشاركة، تكون أقل عرضة لسيطرة النزعات الفردية. كما أن تشجيع النقد الذاتي المؤسسي، وتدريب الكوادر على العمل الجماعي، وإشراك القواعد في اتخاذ القرار، كلها أدوات قادرة على إعادة التوازن بين الفرد والمؤسسة.
إن الإصلاح السياسي يبدأ من داخل الأحزاب قبل أن يمتد إلى خارجه، فالأحزاب التي لا تستطيع إدارة اختلافاتها الداخلية بشفافية وعدالة لن تكون قادرة على المطالبة بإصلاح على المستوى العام، والنرجسية السياسية بقدر ما تبدو ظاهرة هادئة وغير معلنة، إلا أنها قد تكون من أهم العوامل التي تفسر تعثر كثير من التجارب الحزبية. وبهذا المعنى يصبح إصلاح الأحزاب خطوة ضرورية لاستعادة الحيوية السياسية،
وتأسيس بيئة قادرة على توليد البدائل، وصياغة السياسات، وتمكين أجيال جديدة من العمل العام، فبدون أحزاب قادرة على تجاوز النرجسية السياسية، سيظل الإصلاح السياسي شعارًا جذابًا يفتقد الأدوات القادرة على تحويله إلى واقع.







