
«دولة المشروع أم دولة المواطن؟» ليس شعارًا بل مفتاحًا لفهم ما يحدث في كثير من الدول المعاصرة، ومنها مصر. بحثت لأحاول الفهم بهدوء، وبعمق فكري.
دولة المواطن» هي الصيغة الكلاسيكية للدولة الحديثة كما تشكّلت بعد عصر التنوير وجوهرها أن:
المواطن هو الأصل
و الدولة وُجدت لحمايته وخدمته، لا العكس.
الحقوق تسبق المشروعات
حيث التعليم، الصحة، العمل، و العدالة… ليست “نتائج نمو”، بل حقوق تأسيسية.
الشرعية تقوم على: دستور ،ومؤسسات ، وتمثيل ، و محاسبة.
منطقها أن الدولة إطار و المواطن هو الغاية، والاقتصاد أداة لخدمة المجتمع.
في دولة المواطن:
الدولة تنظّم السوق، ولا تهيمن عليه.
تضع القواعد، ولا تنافس داخلها.
تخطئ، لكن تُحاسَب.
تضعف أحيانًا، لكن تُصلِح نفسها عبر العمل السياسي.
هذه هي دولة الحق.
“دولة المشروع” هي صيغة أحدث، تظهر في دول تعاني أزمة شرعية سياسية، و ضغط ديموغرافي، و خوف من الفوضى، أو تهديد وجودي حقيقي أو متخيَّل.
و جوهرها هو أن :
المشروع يسبق المواطن،
وأن القيمة ليست في الحق، و الشرعية تُستمد من: الإنجاز، و البناء ، و السيطرة لتحقيق الاستقرار. .
منطق دولة المشروع أن الدولة هي مقاول/مدير وأن المشروع غاية و المواطن مورد أو مستفيد مشروط.
في دولة المشروع تُقاس الدولة بعدد الطرق و الأبراج و المدن وبالاستثمارات. و لا تُقاس بجودة: التعليم والرعاية الصحية ولا بالعدالة .
هذه دولة القدرة لا دولة الحق.
أين تكمن الخطورة في دولة المشروع؟
الخطر ليس في المشروع ذاته، بل في تحوّله إلى بديل عن هدف السياسة حيث: يستبدل “العقد الاجتماعي” بـ”عقد الإنجاز” .
و بدلاً من طاعة المواطن للقواعد والقانون لأن الحكومةً تمثله يصبح أن عليه الصمت لأن الحكومة تبني وتنجز .
وهذا عقد هشّ، لأنه ينهار عند أول فشل اقتصادي و لا يتحمّل الأزمات الطويلة،
حين يتآكل مفهوم المواطنه،
و عندما تتحوّل الدولة من «حَكَم» إلى «خصم » ، تَملك و تُشغّل و تُسند و تُراقب نفسها ، تختفي المنافسة، وتختفي الثقة.
تلجأ الدول إلى نموذج «دولة المشروع» لأسباب قد تبدو واقعية:
الخوف من الانهيار.
ضعف الأحزاب والمجتمع المدني.
ضغط الزمن (سكان، ديون، توقعات).
ثقافة إدارية ترى ممارسة السياسة فوضى.
عقلية أمنية تُفضّل التحكم على التفاوض.
لكن ما هو مفهوم كحل مؤقت يصبح كارثة حين يتحول الي نظام دائم.
السؤال هو هل دولة المشروع دائمًا فاشلة؟ الإجابة “لا”
بعض الدول استخدمتها مرحليًا مثل كوريا الجنوبية، الصين جزئيًا.
لكن النجاح مشروط بـ: كفاءة عالية و شفافية صارمة و انتقال واضح لاحقًا إلى دولة المواطن.
حين لا يحدث الانتقال… تتحول دولة المشروع إلى دولة هشّة ضخمة.
اذن أين تقف مصر في هذا التقاطع؟
أري أننا نميل بوضوح إلى دولة المشروع دون بناء موازٍ لمؤسسات مساءلة أو عقد اجتماعي جديد. المواطن يُطلب منه التحمل و الصبر،
لكن دون أدوات مشاركة حقيقية،
وهنا يكمن القلق.
الخلاصة الفكرية لهذا المقال أن:
دولة المواطن تقول: “أنا قوية لأنك حرّ”
و دولة المشروع تقول: “أنت آمن لأنني قوية”
التاريخ يقول لنا شيئًا واضحًا:
القوة بلا حق لا تدوم والمشروع بلا مواطن يتحول إلى هيكل بلا روح
و السؤال الحقيقي ليس: هل نحتاج مشروعات؟ بل: هل هذه المشروعات تساهم في إعاده بناء المواطن… أم تستبدله؟
القاعدة النفسية الأولى لفهم دولة المشروع هي أن السلطة التي لا تثق في المجتمع… لا تفاوضه، بل تُديره.
السياسة في وعي هذه السلطة ليست: حوارًا ولا تفاوضًا و لا تمثيلًا ، بل مخاطرة و فوضى و احتمال فقدان السيطرة ، ومن هنا تبدأ الرحلة النفسية.
إن البنية النفسية للسلطة في دولة المشروع هي عقلية المُخلّص الإداري.
السلطة ترى نفسها: الأذكى ، الأقدر، الأعلم بالمصلحة العامة،وتتكوّن لديها صورة ذاتية تقول:
“لو تُرك الأمر للناس، لخربوها.”
هذه ليست بالضرورة نرجسية فردية، بل نرجسية مؤسسية.
نفسيًا يتم تضخيم الذات الجماعية ، و تبخيس قدرات المجتمع وشعور دائم بالاستعلاء الوظيفي.
حتى وهي تبدو قوية، تعيش السلطة في دولة المشروع في حالة: توتر داخلي ، وقلق وجودي و خوف مزمن من الانهيار، ولهذا: تُسرّع الإنجاز ، وتعلن اننا لا نملك الوقت لدراسات الجدوي ، و تكدّس المشروعات ، و لا تحتمل النقد. فالنقد في وعيها ليس تصحيحاً بل تهديداً .
إن العلاقة النفسية بين السلطة والمشروع يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط:
تبرير للسيطرة:
“نحن لا نتحكم… ويكفيكم أننا نبني.”
تعويض لغياب الشرعية
فحين تغيب المشاركة، يُستدعى الإنجاز.
قمع القلق الداخلي
حيث كل مشروع جديد يساوي مُسكّن نفسي مؤقت.
ولهذا لا تتوقف المشروعات… حتى حين لا يحتمل الاقتصاد أو أن تكون بلا جدوي .
تكره دولة المشروع الشفافية لسبب نفسي عميق لأن الشفافية تعني الاعتراف بإمكانية الخطأ.
ودولة المشروع لا ترى نفسها “تخطئ”، بل “تُخطَّأ”.
لذلك تفضّل الغموض وتميل إلى الخطاب التعبوي وتخلط بين النقد والهجوم.
في التحليل النفسي لدولة المشروع ،السياسة تساوي صراع ، و الاقتصاد مجرد أرقام والأرقام تُدار و تُضبط و تُقدَّم دون جدل.
لذلك تُحوِّل السلطة الخلاف السياسي الي خطة تدمير والاعتراض الي مشكلة تنفيذ و الأزمة سببها نقص موارد، فنحن دولة فقيرة..
وهذا يُشعرها بالسيطرة… ولو كانت وهمية.
مع الوقت، تنتشر عقلية دولة المشروع داخل البيروقراطية ، الموظف لا يسأل: “هل هذا عادل؟”بل: “هل هذا مطلوب؟”
المسؤول لا يفكر: “هل هذا يخدم الناس؟” بل: “هل هذا يرضي الأعلى؟”
تبدأ الأزمة النفسية الحقيقية عندما تتراجع قدرة الدولة على الإنجاز أو تتعثر المشروعات أو ينهار الاقتصاد.
هنا تفقد السلطة: مصدر شرعيتها ودرعها النفسي فتلجأ إلى: تشديد السيطرة وتحميل المجتمع المسؤولية مع خطاب لوم وضبط.
النهاية المحتملة هي الإنهاك المتبادل . دولة المشروع لا تسقط فجأة بل تُرهق نفسها وتُنهك المجتمعً ، حتى تفقد الاثنين.
السلطة لا تثق بالمواطن والمواطن لا يشعر بالانتماء ولا شيء أخطر من دولة بلا ثقة متبادلة.
الخلاصة النفسية العميقة أن دولة المشروع ليست خيارًا اقتصاديًا ، بل تعبير عن خوف من المجتمع ، و ضعف في الشرعية ، و إدمان السيطرة ونرجسية مؤسسية.
هي دولة تقول نفسيًا:
“أنا أعمل بدلًا منك… فلا تسألني.”
لكن التاريخ يقول:
الدولة التي تعمل بدل مواطنيها
تنتهي عاجزة عن العمل معهم







