
مقدمة
منذ 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وهو التاريخ الذي شهد انهيار النظام السياسي القائم في دمشق، دخلت سوريا مرحلة فراغ أمني وسياسي غير مسبوق. في هذا السياق، كثّفت إسرائيل من عملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية، متجاوزة نمط “الضربات الجوية المحدودة” الذي ساد خلال السنوات السابقة، إلى تدخل عسكري مباشر ومتعدد الأشكال شمل غارات جوية مكثفة، توغلات برية، ووجوداً عسكرياً داخل المنطقة المنزوعة السلاح التي أُنشئت بموجب اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974.
هذا التحول يطرح سؤالاً قانونياً جوهرياً: هل يمكن تكييف هذه الأفعال ضمن استثناء الدفاع الشرعي، أم أنها تشكل انتهاكاً صريحاً لقواعد القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني؟
أولاً: الإطار الوقائعي – من الغارات إلى الوجود الميداني
1. توغلات داخل منطقة الفصل
أحد أخطر التطورات منذ ديسمبر 2024 يتمثل في دخول القوات الإسرائيلية إلى منطقة الفصل التي تخضع لإشراف قوة الأمم المتحدة لمراقبة فضّ الاشتباك.
هذه المنطقة أُنشئت بموجب اتفاق فضّ الاشتباك بين سوريا وإسرائيل لعام 1974، والذي يُعد اتفاقاً دولياً ملزماً، أُودع لدى الأمم المتحدة، ونُفذ بقرار من مجلس الأمن رقم 350 لعام 1974.
التقارير الدورية الصادرة عن الأمم المتحدة أوضحت بعبارات صريحة أن أي وجود عسكري إسرائيلي داخل منطقة الفصل يشكل انتهاكاً للاتفاق، بغض النظر عن الذرائع الأمنية المقدمة. هذا التوصيف الأممي له وزن قانوني خاص، لأنه يصدر عن الجهة المشرفة مباشرة على تنفيذ الاتفاق.
ثانياً: حظر استخدام القوة في القانون الدولي
1. القاعدة العامة: المادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة
ينص ميثاق الأمم المتحدة في المادة (2/4) على حظر التهديد أو استخدام القوة “ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة”. هذا النص يُعد حجر الأساس في النظام القانوني الدولي المعاصر.
بموجب هذه القاعدة، فإن أي توغل بري أو قصف جوي داخل إقليم دولة ذات سيادة يُعد عملاً غير مشروع مبدئياً، ما لم يندرج ضمن أحد الاستثناءات الضيقة والمعترف بها دولياً.
2. الدفاع الشرعي: المادة 51 وشروطها
تستند إسرائيل، في العادة، إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تكرّس حق الدفاع الشرعي في حال وقوع “هجوم مسلح”. غير أن هذا الحق ليس مطلقاً، بل قيّدته محكمة العدل الدولية في اجتهاداتها، ولا سيما في قضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة (1986)، حيث أكدت أن الدفاع الشرعي يخضع لثلاثة شروط تراكمية:
- 1. وقوع هجوم مسلح فعلي.
- 2. تحقق مبدأي الضرورة والتناسب.
- 3. الطابع المؤقت والاستثنائي لاستخدام القوة.
تطبيق هذه المعايير على الحالة السورية يثير إشكاليات عميقة، إذ يصعب تبرير وجود عسكري مستمر داخل منطقة الفصل أو تنفيذ مئات الضربات الجوية على امتداد عام كامل باعتباره “رداً فورياً ومتناسباً” على هجوم مسلح محدد.
ثالثاً: اتفاق فضّ الاشتباك 1974 كالتزام قانوني مستقل
اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974 لا يُعد مجرد تفاهم سياسي، بل هو اتفاق دولي نافذ أُرفق بآلية تنفيذ أممية.
وبالتالي، فإن خرقه لا يُقاس فقط بمعايير الدفاع الشرعي، بل يشكل انتهاكاً تعاقدياً مستقلاً لقانون المعاهدات الدولية.
تأكيد الأمين العام للأمم المتحدة في تقاريره على أن وجود القوات الإسرائيلية داخل منطقة الفصل “غير مقبول” قانونياً يعزز هذا التوصيف، ويُضعف أي محاولة لتبرير هذه الأفعال تحت عنوان الضرورات الأمنية.
رابعاً: من التدخل إلى الاحتلال – الاختبار القانوني
1. مفهوم الاحتلال في القانون الدولي الإنساني
وفقاً لتعريف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يتحقق الاحتلال عندما تمارس دولة سيطرة فعلية على إقليم لا تملك سيادة عليه، دون موافقة الدولة المعنية.
العبرة هنا ليست بالإعلان السياسي، بل بالوقائع:
- • وجود عسكري دائم؛
- • إنشاء نقاط تفتيش؛
- • التحكم بحركة المدنيين؛
- • استخدام القوة لإدارة الإقليم.
إذا استمرت هذه المؤشرات في جنوب سوريا، فإن الوضع قد ينتقل قانونياً من “عمليات عسكرية عابرة” إلى حالة احتلال فعلي، ما يفعّل تلقائياً تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 ولوائح لاهاي لعام 1907.
خامساً: حماية المدنيين والتهجير القسري
تحظر اتفاقية جنيف الرابعة التهجير القسري للسكان المدنيين، وتعتبره جريمة حرب إذا وقع في سياق نزاع مسلح أو احتلال.
التقارير الصادرة عن هيومن رايتس ووتش حول جنوب سوريا تشير إلى ممارسات تشمل إخلاء قرى، مصادرة منازل، واحتجاز مدنيين، وهي أفعال لا يمكن تبريرها عسكرياً وفق معايير “الضرورة العسكرية”.
هذه الأفعال، إذا ثبتت، تدخل ضمن نطاق المادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تجرّم النقل القسري للسكان وتدمير الممتلكات دون ضرورة عسكرية قاهرة.
سادساً: المسؤولية الدولية وآفاق المساءلة
من منظور القانون الدولي، فإن الانتهاكات الموصوفة تفتح الباب أمام:
- • مسؤولية دولة عن فعل غير مشروع دولياً؛
- • مسؤولية جنائية فردية في حال ارتكاب جرائم حرب؛
- • توثيق أممي مستمر عبر آليات مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان ولجان التحقيق الدولية.
ورغم التعقيدات السياسية التي تعرقل صدور قرارات ملزمة عن مجلس الأمن، فإن التوثيق القانوني لا يسقط بالتقادم، ويظل أساساً لأي مسار مساءلة مستقبلي.
وفي الختام ،
يُظهر التحليل القانوني للانتهاكات الإسرائيلية في سوريا منذ 8 ديسمبر 2024 أن ما يجري يتجاوز إطار “الردود الأمنية المحدودة”، ليقترب من نمط من استخدام القوة يتعارض مع مبادئ أساسية في القانون الدولي، وعلى رأسها:
• حظر استخدام القوة؛
• احترام السيادة؛
• الالتزام باتفاقات فضّ الاشتباك؛
• حماية السكان المدنيين.
وبينما تستمر إسرائيل في تسويق تدخلها بوصفه ضرورة أمنية، فإن القانون الدولي—كما صاغته مواثيق الأمم المتحدة واجتهادات محكمة العدل الدولية—يضع قيوداً صارمة على هذا المنطق، ويجعل من احترام النظام القانوني الدولي شرطاً لا يمكن تجاوزه باسم الأمن.







