شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: مافيش فايدة . لماذا يشعر المصري باليأس

«مافيش فايدة» ليست جملة، بل مزاجٌ عام، وحالة ذهنية، وسردية سياسية صُنعت بعناية. جملة قصيرة، لكنها أثقل من أن تُقال عفوًا، وأخطر من أن تمرّ بلا مساءلة، لأنها لا تصف واقعًا… بل تصنعه.

هكذا تُولد الأساطير الحديثة: لا من نارٍ أو معجزات، بل من تكرارٍ خافت، ومن همسٍ يومي، يتحول مع الوقت إلى يقينٍ كاذب، وإلى قناعة تُشلّ بها الإرادة قبل أن تُقمع.

«مافيش فايدة» ليست يأسًا بريئًا، بل خطابًا سياسيًا مقنّعًا، يُراد له أن يبدو حكمة، وأن يُسوّق كخبرة عمر، بينما هو في جوهره دعوة مبطنة للاستسلام.

يسألون: هل قالها سعد زغلول؟ وكأن أمةً تُختزل في اقتباس، وكأن التاريخ يُحاكم بجملة منزوعة من سياق إنساني خاص، لا علاقة له بمصير وطن أو بكرامة شعب.

سعد زغلول لم يكن عبارة، بل مسارًا. لم يكن صوتًا فوق الجماهير، بل صدى لها. كان يعرف أن القائد لا يسبق شعبه، بل يسير معه، ويقوى بوقوفه، ويضعف إن انكسر.

الشعوب لا تُصنع بالأبطال، بل الأبطال يُستدعون حين تقرر الشعوب أن تنهض. التاريخ لا يُكتب بمن ينتظرون، بل بمن يمشون رغم الشك، ويتقدمون رغم الخوف.

قد لا تكون مصر اليوم هي مصر الأمس، وقد تغيّرت الأزمنة والظروف، لكن الأوطان لا تفقد قابليتها للحلم، إلا إذا اقتنعت أن الحلم صار تهمة.

مصر أكبر من فرد، وأوسع من حزب، وأعمق من جماعة. لم تُخلق لتُدار بمنطق «الرجل الواحد»، ولا لتُختصر في صورة القائد الذي لا يُسأل ولا يُخطئ.

أخطر ما في الاستبداد أنه لا يكتفي بالقوة، بل يستثمر في اليأس. لأن اليأس يُعطّل الشعوب دون طلقة، ويُغلق المستقبل دون سجن.

حين ينجحون في إقناع الناس أن «مافيش فايدة»، يتوقف السؤال، ويبرد الغضب، ويتحول الظلم إلى أمرٍ معتاد، لا إلى جريمة تستوجب المقاومة.

لذلك تُعاد المقولات نفسها، وتُدوَّر الأكاذيب ذاتها: «الصوت لا يُسمع»، «النتيجة محسومة»، «التغيير مستحيل». ليست توصيفًا للواقع، بل أدوات لصناعته.

في لحظات كثيرة، لا تنتصر السلطة بقوتها، بل بانسحاب خصومها من داخلهم، حين يهزمون أنفسهم نفسيًا قبل أن يُهزموا سياسيًا.

حتى الأكاذيب تحتاج غطاءً تاريخيًا، فيُساء استخدام الرموز، ويُشوَّه المعنى، ويُزرع اليأس في أفواه من عاشوا حياتهم يقاومونه.

لم يقل سعد زغلول إن الأمة عاجزة، بل قال — بسيرته لا بلسانه — إن الشعوب إذا آمنت بحقها انتزعته، وإذا شكّت فيه فقدته.

ثم ظهرت أسطورة «المستبد العادل»، كأن العدل يولد من الخوف، أو يعيش في ظل القوانين الاستثنائية، أو يتنفس في غرف التحقيق.

لم يعرف تاريخنا مستبدًا عادلًا، لأن الاستبداد نقيض العدالة، لا شريكها. حيث يوجد القمع، تُداس العدالة، مهما حسُنت الشعارات.

الحق لا يحتاج معجزة، بل وعيًا. وأول طريق استرداده أن نؤمن أنه حق أصيل، لا منحة مؤقتة، ولا هبة مشروطة.

الحب بلا حق عاطفة ساذجة، والحق بلا حب قسوة جافة. أما حين يلتقيان، تولد السياسة الأخلاقية التي تصنع الأوطان لا السجون.

الأمل ليس إنكارًا للواقع، بل رفضٌ للتعايش مع القبح. هو الإيمان بأن ما هو كائن ليس قدرًا نهائيًا، وأن التاريخ ما زال قابلًا لإعادة الكتابة.

كل مرة نُردّد فيها «مافيش فايدة»، نمنح الاستبداد شهادة براءة، ونوقّع على إدانة الغد بأيدينا.

لهذا أقول: «مافيش فايدة» ليست حقيقة… بل أسطورة.
والأساطير، مهما طال عمرها، تسقط حين تواجه شعبًا قرر أن يتذكّر.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى