مقالات وآراء

عبد الرحيم علي يكتب: أوراقُ الخريف بين الذاكرة والوطن

أوراقُ الخريف

لا شيء يَكسِرني…

وتنكسرُ الأحزانُ على أصابعي كفخّار…

تنكسرُ المدنُ القديمةُ والذكريات…

تلك الندبةُ القديمة… ذاك الشجار…

أتذكّر؛

كنتُ في العاشرةِ من عمري…

حين شُجَّت رأسي وتركت علامةً…

جنوبيٌّ أنا…

أشتهي دائمًا أن أكونَ الذي لم أكنه…

أشتهي أن أُلاقي اثنتين:

الحقيقة…

والأوجهَ الغائبة!

هل كان كلُّ ما مرّ بي حلمًا؟

أم أنه هوسُ الفراق

حين تُظلِّله أشجارُ الصنوبر…

وبغدادُ تلفّها الطواحينُ

التي كفّت عن الدوران…

كان المعلّمُ يسبقني،

أشعثَ الشعرِ والروح،

يلهثُ من غيرة،

وأنا وراء لهاثه أتلو:

أنا لا أنظرُ من ثقبِ الباب إلى وطني…

لكنّي أنظرُ من قلبي المثقوب…

وأميّز ما بين الوطنِ الغالب…

والوطنِ المغلوب…

هذا وطنٌ يا ولدي

لم يشهد زورًا…

لكن شهدوا بالزور عليه…

كانت تلك هي المرّةُ الأولى

التي ألتقيه وجهًا لوجه…

عرفتُه من خلال

«الاعتراف الأخير لمالك بن الريب»،

و«سِفر الرؤيا»،

و«سيدة التفاحات الأربع»،

وحفظتُ عن ظهر قلب

أيقونته الرائعة: «المعلّم»…

كنتُ أقارن دائمًا بينه

وبين محمود درويش؛

كان درويش قد وطئ في الروح موطئًا

لم يطأه أحدٌ قبله…

وكان الصائغ قد حفر في قلبي ثقبًا

رأيتُ منه بغداد،

والشيوعيين يُصلَبون

على حائط البعث…

عالمٌ من ورق…

وبقايا نساء…

وقطارٌ يمرّ

يدوس على واجهات المدن…

أرجوحةُ عذاب

يطيش على إثر تطويحها

المثقلون بهم الحقيقة…

دون رقاب…

ويُرجِّح من يأكلون

على طاولات الخليفة

أفئدةَ البسطاء

من الطبقات

التي زيّت أرواحهم…

خفضةُ الجفن

عند مرور صبيّة… تثنّت…

هي الكأسُ، والآسُ،

والخزُّ، والبدرُ

في جملةٍ واحدة…

هذه بغدادُ العتيقة،

وهو يجلسُ منزويًا

في أحد مقاهيها،

يقصّ عليّ تفاصيل رحلته

في ذلك الزمن البعيد،

ويستفيض في شرح التاريخ،

مُبصرًا بعين الحقيقة

ما هو آتٍ…

وكان ما كان…

فضحته السنبلة…

ثم أهدته السنونو

لعيون القتلة…

كان الصائغ يروي،

وبغدادُ تتترى أمامي

صورًا من قرنفل…

كان ذلك في الأسبوع الأول

من مارس 2003…

لا أعرف كيف نجوتُ

بأعجوبة بعدها بأيام

من الاستهداف الجويّ الأمريكي

لفندق الرشيد ببغداد،

وكان الفندق، إبّانها،

مقرًّا لإقامة الصحفيين

من مختلف الجنسيات،

وأسفر الاستهداف

عن قتل وإصابة المئات…

لم تكن تلك هي المرّة الأولى

التي أفلتُّ فيها من موتٍ محقّق…

لكنني أيقنتُ من يومها

أنني والموت

بتنا رفيقين…

كان مسرح مواجهتنا الأولى

في «المنيا» عام 1990،

عندما كمنت لي طلائع

الجماعة الإسلامية

بالسيوف حول منزلي

يريدون رأسي…

لكن بعض الأصدقاء

نبّهوني في اللحظات الأخيرة،

فارتحلتُ،

وكانت القاهرة

هي الملجأ والملاذ…

تعدّدت المواجهات بيننا؛

من المنيا إلى باريس،

مرورًا ببغداد وأمستردام…

كان يحمل لي في كل مرّة مفاجأة،

وأحمل له في كل مرّة

اليقين بالله…

عندما سمعتُ بموت الصائغ

كنتُ في بيروت،

فانتابتني قشعريرة،

ورحتُ أردّد:

«وطني لو شُغلت…»

وراح الناس يراقبونني

بالخلد عنه…

ومرّت سنون…

ورحلتُ إلى باريس،

وكنتُ على موعد

مع نقيضه…

أيقونةٌ من شغف

يطيش على إثر تطويحها

المثقلون بهم الشعر

دون أوزان…

صهوةُ جواد خبّأت نارًا…

طيرٌ يراوح

بين خطوي والرياح…

في الصحارى البعيدة…

كان روايةَ المحبّين،

والمطوّفين حول كلمات الهوى…

شهابًا يمرّ ويختفي

عبر هسْهسات الليل،

لكنه يترك في القلب

طعنتَه الجميلة…

أدونيس…

كرهته يوم أحببتُ درويش والصائغ،

لكنني عشقته

بقدر كراهيتي له،

عندما أدركت

شغف الوصول،

والتنصّل،

والترصّد،

والولوج إلى سدرة الهوى…

هو لغةٌ ترسو

بلا تحيّة

في مرفأ الكلام…

مهيار كنيته،

وريحته وصيغته،

صمته حين يعبر بالكلام…

قلتُ له:

بعيدٌ أنا عن بلادي…

لكنني عندما أقرؤك

أحسّ بوخز إبرة

تحفّزني على الرحيل

من كوكب إلى كوكب،

طيرًا يطير

من شجرة إلى شجرة…

ضحك ضحكته الجميلة،

ثم أدركني بالسؤال:

أتعرِف أن حضارتكم القديمة

تعادل كلّ ما أنتجه العرب

من حضارات؟

وخزتني الكلمة…

هدّهتني…

أبعدتني عن حروف الكلام…

أمسكتُ بالورع

بين السطور…

قلتُ له:

هل تصدّق أنها

لم تُروَ إلى الآن بعد؟!

وتحاملتُ على نفسي

وهممتُ بالرحيل…

ودّعني،

وعلى مرفأ الروح

وجدتني أجرّ أيامي…

كهلًا يسير بجثّة صاحبه

في ختام السباق،

يُكرم أيّامهم

أن تدوس عليها الخيول.

باريس: الخامسة مساءً بتوقيت القاهرة

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى