
في المقال السابق والذي حمل عنوان “جحيم في الماء” تحدثت عن النهاية القاسية للهجرة غير الشرعية، حين يتحول البحر إلى مقبرة مفتوحة، وتدفع الأسر الثمن كاملًا بعد وقوع الكارثة، لكن الحقيقة أن هذه النهاية لم تولد فجأة، ولا تبدأ عند الشاطئ، ولا عند القارب، ولا مع الموج، ولا في لحظة الاختفاء.
هناك فصل آخر أكثر هدوءًا وأكثر خطورة، فصل لا تُظهِره الصور ولا تنقله الأخبار، لكنه اللحظة التي تُحسم فيها المصائر، هنا، تحديدًا، تبدأ الحكاية.
الهجرة غير الشرعية لا تبدأ عند الحدود، ولا مع القوارب، بل في بيت عادي، في جلسة مسائية هادئة، حين تُقال كلمة بسيطة تحمل كل الاحتمالات “فيه سكة سفر”.
في تلك اللحظة لا يكون القرار قد حُسم بعد، لكن الفكرة تدخل العقل وتستقر في صمت، ثم تنتقل إلى البيت كله حيث تُروى الحكاية بصيغة تطمينية، وكأنها امتداد طبيعي للبحث عن حياة أفضل، لا مقامرة على الحياة.
تبدأ الحكاية من السمسار، أو كما يطلق عليه البعض “سمسار الموت”.
لا يظهر في هيئة واضحة أنه سفير الموت، لكنه يظل خفيًا، يفرض نفسه على القرار، بعضهم ابن المنطقة، أو صديق بعيد، وفي الغالب شخص يعرف كيف يتحدث ومتى يصمت، لا يبيع رحلة، بل يبيع يقينًا بأن الطريق آمن ومضمون فكلماته المختارة بعناية تكاد تبدو عقلانية “مش زي زمان”، “الدنيا اتغيرت”، “الطريق ده مضمون”،” لو رجعت فلوسك في رقبتى”، “فلان وفلان وابن فلان سافروا واشتروا كذا وكذا في كام شهر”.
ومع كل كلمة تكتسب الفكرة شرعية صامتة، إلى أن يصبح الضغط على الأسرة خيارًا شبه مفروض.
مع مرور الوقت تبدأ فكرة الرحيل تتحول من خيار إلى ضرورة، ومن ضرورة إلى ضغط صامت يفرض نفسه على كل قرار لاحق، الأسرة تتداول الحكاية، وتستحضر الأمثلة الناجحة، وتعيد صياغة الفشل باعتباره استثناءً.
كل هذا يحدث في صمت، بعيدًا عن أي ضوضاء، بعيدًا عن البحر والموج والقوارب.
لكنها المرحلة التي تُصنع فيها مصائر البشر قبل أن يبدأ أي مسار فعلي.
وفي مقابل هذه المسارات الخفية تبذل الدولة المصرية جهودًا للتعامل مع ملف الهجرة غير الشرعية، من خلال ضبط محاولات العبور غير النظامي، والتصدي لشبكات تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر، وتقليل المخاطر التي قد يتعرض لها الأفراد خلال هذه الرحلات.
وتأتي هذه التحركات في إطار رسمي يستهدف الحد من الظاهرة وحماية الأرواح من المصير المجهول، في وقت يظل فيه التعامل مع الملف بحاجة إلى مقاربات أوسع تتجاوز المعالجات القائمة، وتشمل أبعادًا تشريعية وتوعوية أكثر شمولًا.
مسارات الموت لا تُرسم على الخرائط، ولا تبدأ من البحر أو الغابة، بل تُحسم في لحظة صامتة داخل البيوت.
حين يتحول القرار إلى قدر، ويُغلق الواقع كل الطرق إلا طريق الرحيل، هنا يبدأ المسار، ويقف سمسار الموت في الظل، لا يقود الرحلة، بل يدفع إليها، يمهد الطريق لمصائر مجهولة، حيث كل خطوة لاحقة قد تكون الأخيرة.
هذا المقال هو التمهيد للسلسلة القادمة، حيث سنغوص في كل مسار على حدة.
لنكشف القارئ عن المخاطر الواقعية التي تواجه المهاجرين سواء الطريق الليبي، أو الغابات البيلاروسية، المخاطر الخاصة بالنساء والأطفال، التخزين والمعايشة، وصولًا إلى البحر وما بعد الوصول لمن قدر له النجاة.







