
في قلب الصحراء المصرية، حيث تلتمع النجوم كحبات اللؤلؤ على بساط من الدجى، ولدت أولى بصمات الإنسان على رحلة الزمن، فمصر أم الحضارات، كانت من الأوائل التي أدركت أن للكون إيقاعًا منتظمًا، وأن للحياة مواسمَ لا تُخالف ميعادها، فابتكرت منذ فجر التاريخ تقويمًا مرتبطًا بفيضان النيل العظيم، ذلك الحدث السنوي الذي يمنح الأرض الخصوبة والحياة، فكان التقويم المصري، منذ عام 4241 قبل الميلاد، شاهدًا على تنصيب الملوك، ومواسم الزرع والحصاد، واحتفالات الشعب، كان أكثر من مجرد تقسيم للأيام، كان انسجامًا مع دورة الكون وقلب الطبيعة النابض.
وبينما كانت روما تخطو بجبروتها لتبسط سيطرتها على العالم القديم، وجدت نفسها أمام كنزٍ من المعرفة في الإسكندرية، فحين احتلت مصر، لم تأتِ محمّلةً بالسيوف وحدها، بل جاءت بعقولٍ متعطشةٍ لعلوم المصريين الفلكية الدقيقة، لقد أدرك الإمبراطور يوليوس قيصر أن تقويم روما القديم قد تاه عن مساره، فقرر أن يستعين بحكمة الفلكي السكندري، سوسيجنيوس، ليصحح مسار الزمن الروماني، وهكذا ولد “التقويم اليولياني” عام 45 قبل الميلاد، مقتبسًا جوهره من النظام المصري الدقيق.
جاء هذا التقويم لينظم الفوضى، فيجعل السنة العادية 365 يومًا، والكبيسة 366 يومًا كل أربع سنوات، محاولًا اللحاق بطول السنة الشمسية الحقيقي. ووزّع الأيام على الأشهر، لتصبح الفردية منها ذات 31 يومًا، والزوجية 30 يومًا، باستثناء فبراير الذي أصبح الحلقة الأضعف في هذه السلسلة، حيث أُعطي 28 يومًا في السنة البسيطة و29 في الكبيسة.
لكن بصمة الأباطرة لم تتوقف عند تنظيم الأيام فقط، بل امتدت لتخلّد أسماءهم على صفحات الزمن، فسُمّي الشهر السابع “يوليو” تيمنًا بيوليوس قيصر، ثم جاء القيصر أغسطس (أوكتافيوس) لينقش اسمه على الشهر الثامن، فأصبح “أغسطس”، ولم يُرد أغسطس أن يقل مجدًا عن سلفه، فحرص على ألا يكون شهره أقصر من يوليو، فسُلب يوم آخر من فبراير المسكين، ليصبح 28 يومًا في العادة و29 في الكبيسة فقط، ثم تبع ذلك تعديل آخر، فلم يُرِد القائمون على الأمر أن تتوالى ثلاثة أشهر طويلة (يوليو، أغسطس، سبتمبر)، فجعلوا سبتمبر 30 يومًا، وأكتوبر 31، ونوفمبر 30، وديسمبر 31، وهكذا تشكلت خريطة الأشهر التي نعرفها اليوم، نتاجًا لمزاج الأباطرة ومحاولاتهم للحفاظ على المجد والتناسق.
لكن الكون لا يخضع بالكامل لإرادة البشر، حتى لو كانوا أباطرة، فقد اكتشف الفلكيون لاحقًا أن السنة الشمسية الحقيقية هي 365 يومًا و5 ساعات و49 دقيقة فقط، أي أنها أقصر من السنة اليوليانية بنحو 11 دقيقة، هفوة صغيرة في حساب كل عام، لكنها على مدى القرون تتحول إلى فجوة هائلة، فالتقويم اليولياني كان يتقدّم على الواقع يوماً كاملاً كل 131 سنة تقريبًا، ومع تراكم القرون، بدأت هذه الهوّة تؤثر حتى على المناسبات الدينية الكبرى، كعيد الفصح الذي يجب أن يظل مقترنًا بفصل الربيع.
وهنا برز دور الكنيسة الكاثوليكية لتصحيح المسار، ففي القرن السادس عشر، تبنى بابا الفاتيكان جريجوريوس الثالث عشر رؤية عالمي الفلك أليسيوس ليليوس وكريستوفر كلافيوس، وأصدر مرسومه البابوي الشهير عام 1582، كان التعديل جذريًا حُذفت عشرة أيام دفعة واحدة، فانتقل العالم من يوم 4 أكتوبر مباشرة إلى 15 أكتوبر، كما وُضعت قاعدة جديدة للسنوات الكبيسة، تظل كل سنة يقبل رقمها القسمة على 4 سنة كبيسة، لكن السنوات المئوية (مثل 1700، 1800، 1900) لا تكون كبيسة إلا إذا قبلت القسمة على 400 (مثل 1600، 2000)، وهكذا وُلد “التقويم الجريجوري”، الأكثر دقةً في مطابقة الدورات الفلكية.
لكن قبول هذا التعديل لم يكن سهلًا، فمكانة البابا الدينية هي التي فرضته على العالم الكاثوليكي، بينما قاومته الدول والكنائس غير الكاثوليكية لعقودٍ طويلة، وظلت الكنائس الأرثوذكسية الشرقية متمسكة بالتقويم اليولياني، مما أدى إلى وجود فرق زمني بين التقويمين تجاوز الآن 13 يومًا، ولهذا، بينما يحتفل العالم الغربي بعيد الميلاد في 25 ديسمبر حسب التقويم الجريجوري، يحتفل الشرق في 7 يناير، رغم أن المناسبة واحدة.
ولكن، من أين جاءت فكرة “التقويم الميلادي” نفسها؟ إن الفضل في ذلك يعود إلى راهب إيطالي متواضع من القرن السادس الميلادي، اسمه ديونيسيوس أكسيجونوس، أو “ديونيسيوس الصغير”، لقد نادى هذا الراهب بفكرة ثورية في زمانه، بأن تكون سنة ميلاد المسيح هي سنة واحد، وأن يُعاد حساب التاريخ كله بناءً على هذه النقطة الفاصلة، فحسب نظريته، وُلد المسيح عام 754 لبناء مدينة روما، وعام 532 ميلادية (الموافق 1286 لتأسيس روما)، بدأ العالم باستخدام تقويم جديد يجعل من سنة ميلاد المسيح محورًا للزمن.
لكن لسخرية القدر، اكتشف العلماء لاحقًا أن المسيح وُلد بالفعل قبل ذلك بحوالي 4 إلى 6 سنوات، أي حوالي عام 750 لتأسيس روما وليس 754، ومع ذلك، كان التقويم الجديد قد انتشر في أرجاء العالم، فأصبح التغيير ضربًا من المستحيل، وهكذا بقي التقويم “الميلادي” قائمًا على تاريخ تقديري، لكنه صار العمود الفقري للتاريخ العالمي.
أما في مصر، فظلت علاقة الأرض بالتقويم علاقة وجودية، فبعد أن استوحى الرومان تقويمهم منها، عادت لتتبنى تقويمها الخاص من جديد، ففي عام 284 ميلادية، وهو عام عُرف بـ”عام الشهداء” بسبب الاضطهاد الروماني للمسيحيين، اعتمدت الكنيسة المصرية التقويم المصري وسمّته “تقويم الشهداء”، وبعد الاحتلال العربي، عُرف بـ”التقويم القبطي”، وظل حيًا في قلب الحياة الزراعية والكنسية.
وفي عهد محمد علي باشا، عام 1839، أراد الباشا تحديث الإدارة المصرية، فأصدر قرارًا باعتماد التقويم المصري أساسًا لأعمال الحكومة، لكن تحت مسمى “التقويم التوتي”، نسبةً لشهر “توت” أول شهوره، وكان هذا القرار محاولة لتأكيد الهوية والاستقلال.
لكن رياح التغيير القسرية كانت تلوح في الأفق، ففي نهاية عهد الخديوي إسماعيل، ونتيجة لأزمة الديون وسيطرة الإنجليز على المالية المصرية، أصرّ المستعمرون على إلغاء التقويم التوتي، وفي عام 1875، صدر قرار جائر باعتماد التقويم الميلادي، لم يكن اعتراض الموظفين المصريين وقتها مجرد تمسكٍ بالهوية فقط، فقد كان التقويم التوتي يتكون من 13 شهرًا (بإضافة الشهر الصغير “النسيء” ذي الخمسة أيام)، وكانوا يقبضون راتبًا مقابل هذا الشهر الإضافي، قرار التحول معناه خسارة شهر كامل من الراتب، وهنا لجأ الإنجليز إلى المكر، فصرفوا مكافأة تعويضية في السنة الأولى لتهدئة الغضب، قبل أن يتمكنوا من فرض التقويم الجديد.
وهكذا، انتهت رحلة آلاف السنين من التقويم المصري المستقل في الإدارة الرسمية، تحت وطأة الديون والقرارات الاستعمارية، لكنه بقي حيًا في وجدان الفلاح المصري الذي يزرع ويحصد حسب مواسمه، وفي كنائس مصر التي تحتفل بأعيادها حسب “تاريخ الشهداء”.
ولطالما كان التقويم أكثر من أداة لتنظيم الوقت، إنه سجل حافل لصراعات البشر مع الكون، وتعبير عن هويات الأمم وسيادتها، فهو مرآة تعكس محاولات البشر لفهم النظام الإلهي للكون، وتوثق لحظات انتصار الحكمة على الفوضى، كما تسجل أيضًا لحظات فرض الإرادات بالقوة. قصة التقويم، من مصر القديمة إلى روما، ومن ديونيسيوس الصغير إلى البابا جريجوري، هي قصة إنسانية بامتياز، بحثٌ دؤوب عن الدقة، صراعٌ بين العلم والسلطة، وتشبثٌ بالتراث في وجه رياح التغيير القسرية، وهي تذكرنا أن كل يوم نعيشه يحمل في طياته تاريخًا طويلاً من الحكمة والصراع، وأن تقويم الأمة هو، في النهاية، جزء من روحها.







