مقالات وآراء

عبد الرحيم على يكتب : رحم الذكريات

عندما وَلَّيْتُ وجهي شَطْرَ مدينةِ باريسَ، أَسكنُها وتَسكنُني، كنتُ أبحثُ عن ضالَّتي في الحبِّ والثورةِ والحياة؛ ذلك الثالوثِ المقدَّسِ الذي ظلَّ يُطارِدُني ثُلثَ قرنٍ، أو يزيد. ولَّيْتُ وجهي شَطْرَها، مُحاولًا فيما تبقَّى من عُمرٍ أن أتلمَّسَ ما لم ألحظه شابًّا، عندما كنتُ أزورها وحيدًا في ليالي الشتاءِ، أسيرُ في شوارعِها… تتلقَّفُني عيونُ المارَّة، وحوانيتُ الشانزليزيه، ومقاهي سان ميشيل، وعازفو الموسيقى في محطَّات المترو… أُحدِّقُ في كلِّ قناني العمر، لقد فرغت… وأمدُّ عينيَّ للبعيد، ولا أرى أحدًا سواك… لا الوجوه، ولا المرايا، لا النبيذ ولا الكنائس، لا شيء غيرك كان يسكنني في الحضور وفي الغياب.

هذه المرَّة أتركك خلفي حلمًا جميلًا سكنني مذ كنتُ طفلًا؛ قد يختلف البعض في تفسيره، لكنه كان صرخةَ رجلٍ وُلِد من رحم الذكريات، قدَّم حلمَه على مذبح العشق، قلادةَ حبٍّ إليك… أترك دياري، مختارًا مُحبًّا، عاشقًا، أبحث عن ضالَّتي، وأرسم خطاك على جبين العاشقين…

على ضفافِ «السين» أتذكَّر بلدتي البعيدة في صعيد مصر وأبكي، لكنني أسمع صوتَ أبي يُطارِدُني بجملتِه الأثيرة: «الرجالُ لا يبكون»… كان ذلك منذ زمنٍ بعيد. هل كنتُ كبيرًا كفايةً ليُحمِّلَني أبي، آنذاك، وصيَّتَه الوحيدة؟ أم كانت تلك أسطورتَه التي ظلَّت تُطارِدُني حتى الآن؟!

في ميدان الكونكورد، حيث المسلَّةُ الفرعونيةُ العتيقة، وفندق لوكريون الشهير، والجناحُ الشرقيُّ لقصر الإليزيه… أتذكَّر تلك المرأةَ الشاحبةَ الأنيقة… قالت لي ذاتَ يومٍ إن جدِّي لقَّنها درسًا بالعصا على ظهرها عندما أمسك بها تُغنِّي: «على بلدِ المحبوب ودِّيني…»، ورمت نفسَها بين أحضاني وبكت… كنتُ أُشبهها إلى حدٍّ كبير، وكان يحلو لي تذكيرُها بتلك اللحظة مرارًا، ثم نضحك… بعيدةٌ هي الآن، وغائبةٌ في السكينة، لكنها تسكن قلبي أينما رحلت، كما سكنتُ أنا روحَها ورحمَها قبل ثلاثٍ وستين عامًا.

لم أكن من الذين وُلِدوا وفي أفواههم ملعقةٌ من ذهب؛ كنَّا أبناءَ الفقراء نُدعى، حملنا همومَ جيلنا، وهمومَ المهمَّشين، وقبل كلِّ هؤلاء همومَ الوطن، حملناها في قلوبنا وعقولنا، وحلمنا بغدٍ أفضل، حتى وهنَ العظمُ، واشتعل الرأسُ شيبًا.

كنتُ واحدًا من كثيرين جذبتهم موجةُ اليسار مبكِّرًا (عام 1977)، إلى حيث بحرُ المعرفةِ والأدبِ والثقافة؛ تعرَّفنا، منذ نعومة أظافرنا، على تاريخ مصر الحديث، من خلال الجبرتي، وعبد الرحمن الرافعي، وطارق البشري، وعبد العظيم رمضان، والعمِّ صلاح عيسى، وكبيرِنا الذي علَّمنا السحر… رفعت السعيد.

حفظنا ووعينا، عن ظهر قلب، أشعارَ فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأمل دنقل، ومحمود درويش، وأدونيس، ويوسف الصائغ، وعبد الرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم، ومظفَّر النواب. وقرأنا قصصَ يحيى الطاهر عبد الله، وعبد الرحمن منيف، وحنا مينا، ورشيد بوجدرة، وحيدر حيدر، والطيب صالح، والطاهر وطار.

وقبل كلِّ هؤلاء كانت معرفتُنا وثيقةً بشيخ الرواية العربية نجيب محفوظ، والعبقري يوسف إدريس. خلطنا مبكِّرًا التاريخَ بالأدب، والشعرَ بالقصة، والغناءَ بالموسيقى، والسينما بالمسرح. كنَّا نشتري الكتابَ جماعةً، ونقرأه فُرادى. واجهنا مبكِّرًا جماعاتِ العنفِ الدينيِّ في عُقر دارها في صعيد مصر، في المنيا؛ وغنَّينا مع محمد منير: «لو بطَّلنا نحلم نموت».

وعشنا مع أسامة أنور عكاشة ملحمةَ «ليالي الحلمية» و«أرابيسك»، ولم نرفع أبدًا الرايةَ البيضاء… وعندما زارني في منزلي عام 2008، وكان قد كتب مقالًا عني في صحيفة «الوفد»، شكرته زوجتي وبناتي، وتناولنا أنا وهو والكبار: السيد ياسين، ومحمد نوح، ونجيب ساويرس، ومكرم محمد أحمد، ووحيد حامد، ولينين الرملي، ووجيه وهبة، ومجدي أحمد علي، بصَّارةً بالتقلية من صنع «أم خالد». كان خالد صغيرًا عندما شاهد الكبار في منزلنا، وأخذ صورًا معهم ليريها لزملائه في المدرسة، وعندما حضر بعدها بسنوات مفيد فوزي إلى منزلي لإجراء حوارٍ معي في برنامجه الشهير «مفاتيح»، راح خالد يستعرض معه تلك الصور، يقول له: لستَ أوَّلَ المشاهير الذين دخلوا بيتنا، وضحك الأستاذ مفيد عندما أدرك مراد خالد.

أتذكَّر الآن تلك الاجتماعات… كان ذلك في صيف 2008، وكنا بصدد تأسيس مؤسسة تحت اسم «المنتدى الليبرالي المصري»، مهمتُها مواجهةُ الإخوان، ليس فقط فكريًّا وإعلاميًّا، بل أيضًا على الأرض بشكلٍ اجتماعي، عبر جمعياتٍ تقدِّم ما تقدِّمه الجماعة من خدمات. لكن اللواء حبيب العادلي، وزير الداخلية آنذاك—سامحه الله—كان له رأيٌ آخر، فتمَّ إجهاضُ المشروع… مؤخرًا كنتُ ضيفًا على صالون السيدة نيللي غبور للحديث عن أوضاع المنطقة، والتقيتُ المهندس صلاح دياب، وفوجئتُ به يستدعي ذكرياتِ ذلك الاجتماع، ويتهمني بأنني كنتُ السبب وراء استدعائه يومها لسؤاله عن علاقته بي وبالاجتماع وبالفكرة، ولم يكن للرجل آنذاك علاقةٌ بالموضوع سوى نشر «المصري اليوم» عنه.

يومها قال وجيه وهبة إن الحكومة لو تركتنا ننفِّذ الفكرة لتغيَّر وجهُ البلاد، ولما كان الإخوان وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تجذُّرٍ في المجتمع المصري طوال سنوات ما قبل يناير 2011.

كنتُ قد جهَّزتُ تلك الفكرة، وعرضتها على المهندس نجيب ساويرس، وناقشتها مع الأساتذة: السيد ياسين، ومكرم محمد أحمد، ووجيه وهبة، ولينين الرملي، وأسامة أنور عكاشة، ومحمد نوح، ومجدي أحمد علي، ووحيد حامد، وأحمد سيد حسن، ومجدي الدقاق… وعقدنا من أجلها ثلاثة اجتماعات؛ الأوَّل كان على عشاء عمل بمنزلي، والآخران عُقدا بنادي جاردن سيتي المملوك لساويرس. وفي الاجتماع الثاني عرضتُ مشروعَ البرنامج العام، واخترنا السيد ياسين رئيسًا، واختارني الحضور أمينًا عامًا، لكن سرعان ما أُجهض المشروع في مهده بعد الاجتماع الثالث، بتعليماتٍ من حبيب العادلي آنذاك.

لا أعرف لماذا تتراكم الذكريات على ذهني وأنا أستعرض أيامي الجديدة… هل لأن الحزن ضد الزمن؟ ضد مَن؟ ومتى القلبُ في الخفقان إطمئن؟!

في تلك السنوات (سنوات التكوين الأولى) شاهدنا مع جلال عبد القوي «خيارات» الإخوة في «المال والبنون»، وعرفنا من علي الحجار أن الشيطان «ما يقدَر على اللي خيره لغيره»، فأحببنا الانتماءَ للفقراء والمهمَّشين، وغنَّينا لهم ومعهم أغاني الحب والثورة والحياة… وتنبَّأنا معهم بالخطر القادم، وحاولنا تجنُّب الكارثة، لكن أحدًا لم يسمعنا، على الرغم من أن الرئيس مبارك نفسه طلب من المرحوم الشيخ محمد سيد طنطاوي، والمفتي علي جمعة (وهو حيٌّ يُرزق)، أن يجلسا معي ويطَّلعا على ما كتبتُ عن تلك الجماعات، وبخاصة الإخوان، واصفًا إياي بـ«مدفعجي مصر» ضد الإرهاب وجماعاته وحلفائه… وجلستُ معهما، وتجذَّرت علاقتي بالرجلين. وربما يتوفَّر لديَّ الوقت لأكتب عن تلك الفترة، في الوقت الذي كان فيه البعض من السياسيين والمفكرين، المعروفين حتى الآن، يُبشِّرون بمشروع الإخوان، دون وعيٍ أو معرفة.

كنتُ، وما زلتُ، أُدين لمدرسة اليسار بالكثير، وبخاصة هؤلاء الذين احترموا تقاليدَ وعاداتِ وثقافةَ المصريين والعرب؛ احترموا أننا أبناءُ تلك الحضارة العربية التي جمعت بين مسلمي ومسيحيي الشرق، وصهرتهم في بوتقةٍ واحدة. هؤلاء الذين لم يجدوا غضاضةً في أن يُصلُّوا الفجر بسورة «يس»، أو يذهبوا إلى الكنيسة في أيام الآحاد، ويقرؤوا ما تيسَّر من الإنجيل، ثم يعودوا إلى منازلهم فيفتحوا كتاب «رأس المال» ليقرؤوا فصلًا منه، ليُشكِّلوا وعيًا جديدًا بحضارةٍ منفتحةٍ على الآخر. لم يتمترسوا خلف الأممية الثالثة التي اصطنعها ستالين ليُكرِّس ديكتاتوريته، وإنما انفتحوا على ليون تروتسكي، والاشتراكية الأوروبية، وانفتحوا أكثر على تجارب الفكر الليبرالي، وأخذوا من كل تجربةٍ بقدر. عرفوا دورَ الأدب والفن في نضال وكفاح الشعوب، فانخرطوا في كل تجربةٍ تُمجِّد قيمةَ الإنسان، أيَّ إنسان، ودافعوا عن قيمة حرية الفكر والإبداع. نهلوا من عظمة كازنتزاكس، وكافكا، وبابلو نيرودا، والعبقري فيكتور هيجو.

احترموا قيمةَ التفرُّد والابتكار، فكانوا بحقٍّ روَّادَ جيلٍ مختلف؛ جيلٍ أكاد أقول، دون سفسطةٍ أو تعالٍ، إنه صنع نفسَه بنفسه. لم يكن له أساتذةٌ بالمعنى التقليدي للكلمة، لكنه كان منفتحًا على كل التجارب، فخرج صلبًا قويًّا، يعي قيمةَ ذاته ووطنه؛ لذا استطاع الصمود، دون ضجيج، في وجه تتار العصر الجديد، واستطاع أن ينجو مما وقع فيه الجميع، من الذين صنعوا من أنفسهم جسرًا عبر عليه التتار، أولئك الذين عصروا الليمون ووقفوا في فندق فيرمونت الشهير، يُمهِّدون لقدوم المغول.

فينيسيا: الخامسة مساء بتوقيت القاهرة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى