
لا يشيخ الوطن ما دام فيه رجلٌ يشبه الوصايا القديمة، ولا يهرم الحلم ما دام بيننا من يحمله كشمعةٍ في مهبّ الريح، تحترق لتضيء… ولا تنطفئ.
نلتقي الليلة، في تمام الثامنة مساءً، في المركز الثقافي المصري بإسطنبول، وفي الصالون الثقافي الملحق بمتحف «وجوه لا تغيب»، لنحتفل بعيد ميلاد رجلٍ بدأ اليوم عامه الثاني والتسعين، وكأنه يبدأ الوطن من جديد.
عبد الجليل مصطفى ليس اسمًا عابرًا في سجل السياسة، ولا توقيعًا على بيانٍ قديم، بل ضميرٌ يمشي على قدمين، وصوتٌ منخفض النبرة… عالي المعنى.
يسألني شاب، بعينين لم تتلوثا بعد بخيبات الميدان: —
من هو؟
فأجيبه بلا تردد، وبلا خطابة:
هو شيخ شيوخ السياسيين المصريين،
ومعلّم الصبر الطويل،
وحارس الفكرة
حين ينام الجميع.
عاش للناس طبيبًا، يداوي الجسد… ولا ينسى الروح، وعاش للوطن مناضلًا جسورًا، لا يرفع قبضته إلا دفاعًا عن حق، ولا يخفض صوته إلا احترامًا للحقيقة.
بعض الرجال لا يملكون رفاهية التراجع،
ليس عنادًا…
بل لأنهم يعرفون أن الفكرة إن تُركت وحدها بردت،
وأن الوطن إن غاب عنه شهوده الصادقون صار ساحةً بلا ذاكرة.
عبد الجليل مصطفى من هذا الصنف النادر، الذي لا يغيّر موقعه بتغيّر الطقس، ولا يبدّل بوصلته لأن الطريق طال، يمشي كما بدأ… هادئًا، مستقيمًا، كأن الزمن هو العابر وهو المقيم.
تعلّمتُ منه أن السياسة ليست صخبًا،
ولا سباقَ لافتات،
بل صبرٌ طويل على فكرةٍ تعرف طريقها
ولو تعثّر الحالمون بها ألف مرة.
كان حاضرًا كلما احتجنا صوتًا لا يزايد، ورأيًا لا يساوم، وكتفًا لا يتأخر حين يثقل الحمل على من اختاروا الطريق الأصعب.
متمنّين أن يبقى هذا الوجه الذي لا يغيب مثالاً للصمود والصبر،
وأن نحتفل دائماً إن شاء الله بوجود من يشبهون عبد الجليل مصطفى في حياة هذا الوطن.







