إلهامي الميرغني : من الإصلاح إلى التفكيك ومن السيادة الغذائية إلى التبعية الشاملة كيف تهاوت الزراعة المصرية؟

نشأنا على أن مصر دولة زراعية، وأنها كانت مخزن غلال العالم القديم، وأن ثورة 23 تموز/يوليو 1952 أنهت سطوة الإقطاع عبر قانون الإصلاح الزراعي الأول، واضعة مساراً للتنمية الريفية والسيادة الغذائية استمر حتى مطلع السبعينيات.
لكن هذا المسار ما لبث أن انقلب رأساً على عقب مع سياسات الانفتاح الاقتصادي التي دشّنها الرئيس أنور السادات، ومع الخضوع المتزايد لتوجهات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والوكالة الأميركية للتنمية، لتبدأ مرحلة تفكيكٍ ممنهجٍ للبنية الزراعية وإعادة تشكيل علاقات الملكية والإنتاج في الريف المصري، وهو ما مهّد إلى تفكيك الزراعة وضرب السيادة الغذائية وأوصل إلى ما نشهده اليوم من تبعية شاملة.
من ردّ الاعتبار للإقطاع إلى طرد الفلّاحين
قبل الدخول في التفاصيل الإجرائية، يجب التوقّف عند لحظة التحوّل التي أعادت فتح الباب لعودة الإقطاع بثقله السياسي والاجتماعي، لا بوصفها قراراً معزولاً، بل باعتبارها إعلاناً مبكّراً عن انقلاب في فلسفة الحكم نفسها.
كانت أولى الإشارات الفارقة في هذا المسار في تشرين الأول/أكتوبر 1971، حين أصدر أنور السادات قراراً بتعويض الإقطاعيين، ثمّ تبعه قرار برفع الحراسات عن ممتلكات 1,200 أسرة مصرية. قبل أن يستكمل المسار في آب/أغسطس 1981 بطرد الفلاحين الذين وزّعت عليهم أراضي الحراسات.
هكذا بدأ التفكيك عبر استعادة جزء من نفوذ كبار الملاّك على حساب المكتسبات الاجتماعية التي تحققت في الستينيات.
تحوّل التمويل الزراعي تدريجياً من وظيفة تنموية تعاونية إلى نشاط ربحي استثماري، ما نزَع منه دوره الاجتماعي لصالح رأس المال
تواصلت الضربات في حزيران/يونيو 1975، بتعديل قانون الإصلاح الزراعي لصالح الملاك، إذ مُنحوا حق طرد المستأجرين عند التأخر شهرين عن دفع الإيجار، وأُلغيت اللجان المحلية لفضّ المنازعات، فدخل الفلاحون في دوامة التقاضي، وهو ما لم يكن في مصلحة صغار المزارعين.
وبحلّ الاتحاد التعاوني الزراعي في العام 1976، ثم إلغاء الهيئة العامة للتعاون الزراعي والمؤسسة العامة للائتمان الزراعي، ودخل الريف مرحلة جديدة من التفكيك المؤسسي. أيضاً جرى تحوّل في التمويل الزراعي مع صدور القانون 117 لسنة 1976 الذي قضى بإنشاء البنك الرئيسي للتنمية والائتمان الزراعي كبديل للتعاونيات، وكما يشير الدكتور صقر النور،1 فقد تحوّل التمويل الزراعي تدريجياً من وظيفة تنموية تعاونية إلى نشاط ربحي استثماري، ما نزَع منه دوره الاجتماعي لصالح رأس المال.
بالتوازي، تقلّص الإرشاد الزراعي، وانقطعت العلاقة تدريجياً بين الفلاحين ومراكز البحوث الزراعية وكليات الزراعة، وغابت المعالجات العلمية لمشكلات تدهور خصوبة التربة وارتفاع ملوحتها وانخفاض إنتاجية المحاصيل.
من إنتاج الغذاء إلى إنتاج التصدير
غير أنّ الضربة الأكبر التي أصابت علاقات الإنتاج والملكية في الريف المصري جاءت في عهد الرئيس حسني مبارك مع صدور القانون رقم 96 لسنة 1992، الذي حرّر العلاقات الإيجارية في الأراضي الزراعية ورفع القيمة الإيجارية السنوية من 7 أمثال الضريبة إلى 22 ضعفاً للضريبة العقارية على الأرض، مع منح الملاك حق طرد المستأجرين بعد 5 سنوات، على نحو يشبه ما يجري اليوم في قانون الإيجارات القديمة للمباني السكنية والتجارية.
ومع تحويل عقود الإيجار وإخضاعها للقانون المدني، يقدّر الدكتور صقر النور أنّ أكثر من مليون أسرة قد تضرّرت من تطبيق القانون وطُردت من الأرض. ويعلّق قائلاً: «هكذا، وبضربة واحدة، جرى إفقار وتهميش ما يقرب من 10% من سكان مصر، عبر الآليات نفسها التي احترفها نظام مبارك واستعملها في جبهات أخرى عديدة».
بضربة واحدة، جرى إفقار وتهميش ما يقرب من 10% من سكان مصر، عبر الآليات نفسها التي احترفها نظام مبارك واستعملها في جبهات أخرى عديدة
وفي أوائل التسعينيات، وتحديداً مع صدور قانون حرية التجارة العالمية في العام 1992، أُلغيت الدورة الزراعية بشكل فعلي، ما منح المزارعين حرية اختيار ما يزرعونه. وكانت تلك ضربة أخرى للقطاع الزراعي، إذ اندفع كثيرون نحو زراعة المحاصيل التصديرية مثل الفراولة والكانتلوب، على حساب المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والأرز والذرة.
وقد كانت الدورة الزراعية، لعقود طويلة، أداة لضمان الاكتفاء الغذائي من القمح والأرز والذرة والشعير والفول والعدس والزيوت النباتية، إلى جانب القطن طويل التيلة الذي شكّل العمود الفقري لصناعة المحالج والغزل والنسيج والملابس الجاهزة. ومع غياب تلك الآلية، صار الفلاح يبحث عمّا يحقق له أعلى عائد اقتصادي، وتكفي الإشارة إلى أنّ المساحات المزروعة بالقطن انخفضت من نحو مليوني فدان في سبعينيات القرن الماضي إلى أقل من 130 ألف فدان اليوم، مع التحول من زراعة القطن طويل التيلة إلى الأصناف المتوسطة والقصيرة التيلة وفتح الباب واسعاً أمام الاستيراد.
الاقتصاد الحرّ يبتلع سوق الأسمدة والبذور
تزامن ذلك مع تحرير أسواق البذور والأسمدة والمبيدات منذ العام 1992، حيث أصبح القطاع الخاص يسيطر على أكثر من 80% من توزيع الأسمدة، بينما انتهى الدور التاريخي للتعاونيات الزراعية، في إطار تبني سياسات التحرر الاقتصادي التي اعتبرت تحرير مستلزمات الإنتاج خطوة ضرورية لإعادة هيكلة القطاع الزراعي.
لاحقاً، في العام 2024 باعت الحكومة جزءاً من حصتها في أكبر شركات إنتاج الأسمدة في مصر، وهما «أبو قير للأسمدة والكيماويات» و«موبكو»، في مقابل 14 مليار جنيه، على الرغم من أن هذه الشركات تُعد من أعلى الشركات المصرية ربحية.
كما أُجبرت شركة «كيما» على بيع حصتها في «أبو قير»، لتخسر البلاد واحداً من أهم أصولها الصناعية وأكثرها ربحية في قطاع الأسمدة. فقد حققت «أبو قير» وحدها أرباحاً بلغت 9.3 مليارات جنيه في العام الأخير، وهو ما يعني عملياً أن الاقتصاد المصري تخلّى عن إحدى دُرره الصناعية في قطاع يُعد من الأعمدة الأساسية للإنتاج الزراعي عالمياً.
أصبح القطاع الخاص يسيطر على أكثر من 80% من توزيع الأسمدة، بينما انتهى الدور التاريخي للتعاونيات الزراعية، في إطار تبني سياسات التحرر الاقتصادي
وكانت أسعار الأسمدة الكيماوية قد بدأت تشهد زيادات حادة منذ العام 2021، حين رفعت الحكومة سعر طن الأسمدة الآزوتية المدعومة من نحو 3,290 جنيهاً إلى 4,500 جنيه، ما رفع سعر الشكارة إلى 225 جنيهاً، بينما قفزت أسعار اليوريا في السوق الحرة إلى ما بين 7,500 و8,000 جنيه للطن، أي ما يعادل 375–400 جنيه للشكارة.
وفي العام 2025 استمرت الأسعار في الارتفاع والتقلب قبل أن تستقر نسبياً في نهاية العام عند مستويات تدور حول 13,850 جنيهاً لطن النترات العادي، و25,333 جنيهاً لطن اليوريا المخصوص، في حين بلغت أسعار الأسمدة داخل الجمعيات الزراعية نحو 7,800 جنيه للنترات و21,000 جنيه لسلفات البوتاسيوم. وقد اتسعت الفجوة بين الأسعار المدعومة وتلك المتداولة في السوق الحرة، التي وصلت في بعض الأحيان إلى أضعاف عدة، بفعل نقص المعروض واضطراب آليات التوزيع.
وتفاقمت معاناة الفلاحين مع الارتفاع المفاجئ في أسعار المنتجات البترولية في تشرين الأول/أكتوبر 2025، إذ بلغ سعر لتر السولار (المازوت) 17.5 جنيهاً، وهو الوقود المحرك لمعظم الآلات الزراعية وماكينات الري والحصاد والدراس والنقل.
وزادت أزمة تكلفة الإنتاج تعقيداً مع استمرار مشكلة ندرة المياه، على الرغم من إنفاق الدولة أكثر من 80 مليار جنيه على مشروع تبطين وتغطية الترع، الذي يستهدف تأهيل نحو 20 ألف كيلومتر من المجاري المائية. وعلى الرغم من هذه الكلفة الضخمة، لم تجرِ أي دراسة اقتصادية جادة تقيس جدوى المشروع، كما بقيت مشكلة نقص المياه قائمة، خصوصاً في نهايات الترع، مع تزايد الاضطرابات المناخية وتغير مواعيد الزراعة في مصر، فضلاً عن التأثيرات المتصاعدة لسد النهضة الإثيوبي.
هندسات مالية تفقر الفلاحين
بعد الاستيلاء على أموال التعاونيات المودعة في بنك التسليف وتحويله أولاً إلى بنك التنمية ثم إلى البنك الزراعي، تراكمت الديون على الفلاحين بصورة غير مسبوقة. وتوقفت البنوك التجارية بالكامل عن إقراضهم بحلول العام 2015. ووفق البيانات الحكومية آنذاك، بلغ عدد المتعثرين لدى بنك الائتمان الزراعي 206,960 فلاحاً بإجمالي مديونية قدرها 4 مليارات جنيه، بينما لاحقَت أحكامُ الحبس عشرات الآلاف منهم لعجزهم عن السداد.
وفي العام 2016 أعيدت هيكلة البنك بعد صدور القانون رقم 84، فتحوّل إلى «البنك الزراعي المصري»، بنكاً تجارياً مملوكاً للدولة لكن خاضعاً لمنطق السوق، لا لمنطق الزراعة. واليوم يُعد واحداً من أكبر البنوك المتخصصة في المنطقة، إذ يمتلك أكثر من 1,210 فروع وبنوك قرى، وسعات تخزينية تتجاوز 4 ملايين متر مربع، من بينها مليونا متر لاستلام القمح المحلي، إضافة إلى 392 شونة موزعة في مختلف أنحاء البلاد.
بلغ عدد المتعثرين لدى بنك الائتمان الزراعي 206,960 فلاحاً بإجمالي مديونية قدرها 4 مليارات جنيه، بينما لاحقَت أحكامُ الحبس عشرات الآلاف منهم لعجزهم عن السداد
لكن هذا الاتساع المؤسسي لم ينعكس على الفلاحين. فكما يوضح أحمد خليفة، ظلّ مستأجرو الأراضي الزراعية، الذين لا يملكون حيازات، محرومين من خدمات التمويل منذ أكثر من قرن.2 وهكذا تحوّل بنك التسليف الزراعي، الذي أنشئ أصلاً لدعم الفلاحين بشروط ميسرة، إلى بنك تجاري تفرض فوائده معدلات تفوق 20%، وهي مستويات يستحيل على الفلاح الصغير احتمالها، بينما يستفيد منها كبار الملاك والشركات الزراعية الكبرى وحدهم.
من مخزن للغذاء إلى أكبر مستورد له
وقد أدّت هذه السياسات المتراكمة إلى تدهور مباشر في السيادة الغذائية، حتى باتت مصر تستورد 55% من استهلاكها من القمح، لتصبح أكبر مستورد له في العالم. كما ارتفعت نسبة استيراد الذرة الشامية إلى 50.7%، فأصبحت مصر خامس أكبر دولة في العالم استيراداً للذرة، وتحوّلت من دولة مصدّرة للسكر إلى دولة تستورد 35% من احتياجاتها. وامتدت الفجوة الغذائية لتشمل 79% من احتياجات البلاد من الفول، و99.7% من العدس، و30% من اللحوم الحمراء، و95% من الزيوت النباتية في العام 2023.
بهذا الشكل، انهارت القدرة الإنتاجية للزراعة المصرية وتعزّزت التبعية الغذائية، وفقدت البلاد جانباً أساسياً من سيادتها الاقتصادية، بينما تحمّل المزارعون وحدهم كلفة هذا التراجع.
ويُعد قطاع الزراعة مع ذلك واحداً من أهم القطاعات الحيوية في الاقتصاد المصري، إذ يعمل فيه نحو 19% من إجمالي القوى العاملة بحسب بيانات البنك الدولي، ويساهم بنحو 10.9% من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي يمنح أهمية مضاعفة لضرورة إصلاح هذا القطاع والارتقاء بأوضاع العاملين فيه، باعتباره ركيزة لا يمكن الاستغناء عنها في أي مشروع تنموي حقيقي.
أزمة الإيجار تُخرج الفلاحين من المعادلة
تشكل قيمة الإيجار ما بين 35% و45% من التكلفة الإجمالية للزراعة في مصر، ولذلك فإن تحرير العلاقات الإيجارية بموجب القانون رقم 96 لسنة 1992، وترك تحديد القيمة الإيجارية لقوى السوق بالتزامن مع الارتفاع المستمر في أسعار التقاوي والأسمدة والمبيدات، أدّى إلى سلسلة متواصلة من الزيادات التي أثقلت كاهل الفلاحين. وعلى الرغم من وجود بعض الاستثناءات في أراضي الإصلاح الزراعي وأراضي الأوقاف، فإنها سرعان ما تلاشت مع السياسات الحكومية اللاحقة.
انهارت القدرة الإنتاجية للزراعة المصرية وتعزّزت التبعية الغذائية، وفقدت البلاد جانباً أساسياً من سيادتها الاقتصادية، بينما تحمّل المزارعون وحدهم كلفة هذا التراجع
ففيما يتعلق بأراضي الأوقاف، التي يبلغ إجمالي المساحات المستأجرة منها نحو 265 ألف فدان، أعلن وزير الأوقاف في العام 2019 أمام لجنة الشؤون العربية في البرلمان أن تجديد عقود الإيجار لن يتم إلا وفقاً للقيمة السوقية الجديدة. وبدأت الوزارة بالفعل رفع القيمة الإيجارية من 500 جنيه للفدان إلى 4,800 جنيه في العام 2018، ثم إلى 6,000 في العام 2019، و7,200 في 2020، وصولاً إلى 9,600 جنيه لاحقاً.
أما أراضي الإصلاح الزراعي، التي تبلغ مساحتها نحو 800 ألف فدان، فقد شهدت منعطفاً حاسماً في 27 شباط/فبراير 2021، حين أقرّ مجلس الدولة تطبيق القيمة الإيجارية السوقية على هذه الأراضي أيضاً، ما فجّر موجة واسعة من الزيادات. وبلغت الذروة قبل أيام قليلة مع قرار وزارة الأوقاف رفع إيجار الفدان من 15,000 جنيه إلى 45,000، وهي زيادة قدرها 30,000 جنيه دفعة واحدة وبنسبة 200%. وبالتوازي، رفع الإصلاح الزراعي قيمة إيجار الفدان من 10 آلاف إلى 27 ألف جنيه، أي بزيادة 17 ألف جنيه بنسبة 170% دفعة واحدة.
وتؤدي هذه الزيادات المتتابعة إلى ارتفاع هائل في تكلفة الإنتاج الزراعي، إذ بات الإيجار يقترب من نصف التكلفة الإجمالية، ما ينعكس تلقائياً على الإيجارات في بقية الأراضي ويضاعف خسائر الفلاحين. ويبدو الأمر وكأنه يدفع المزارعين دفعاً إلى هجر الأرض والنشاط الزراعي، في ظل سياسات تضر مباشرة بأوضاع أكثر من مليون أسرة تعتمد على الزراعة كمصدر رئيس للدخل والعيش.
تفكيك التنظيمات: الفلاحون بلا صوت
لكي تتشكل مقاومة حقيقية لسياسات تحرير السوق في الزراعة، لا بد من تمكين عمال الزراعة وصغار الفلاحين من تأسيس نقابات وتعاونيات مستقلة تعبّر عن مصالحهم وتدافع عن حقوقهم. غير أن الواقع يكشف وجود قيود صارمة على التنظيمات الفلاحية، ما جعل قدرتها على التحرّك محدودة للغاية. ففي العام 2023 بلغ عدد المشتغلين بأجر أكثر من 21 مليون عامل، لم ينضم إلى الاتحاد العام لنقابات العمال الحكومي سوى 4.7 ملايين منهم، أي ما يقارب 22.3% فقط، بينما بقي 78% خارج أي إطار تنظيمي رسمي.
ويضم الاتحاد الحكومي نقابة عامة لعمال الزراعة والصيد والري، لكنها لم تشارك منذ تأسيسها في أي حراك عمالي يخص الزراعة، ولم ترفع صوتها إزاء التدهور الواسع في أوضاع صغار الفلاحين وعمال الزراعة، ولا حتى أمام الوفيات المتكررة لعشرات العاملات والعمال يومياً في حوادث النقل الجماعي المرتبطة بالقطاع.
بات الإيجار يقترب من نصف التكلفة الإجمالية، ما ينعكس تلقائياً على الإيجارات في بقية الأراضي ويضاعف خسائر الفلاحين
وبعد ثورة 25 يناير، شهدت البلاد طفرة في تأسيس النقابات المستقلة، التي تجاوز عددها 1,500 نقابة، كان من بينها عشرات النقابات الخاصة بعمال الزراعة وصغار المزارعين. بل إن وزير الزراعة آنذاك دعم إنشاء نقابة للفلاحين برئاسة حسين أبو صدام، وكان لها مقار في مختلف المدن والمراكز.
لكن مع صدور قانون النقابات العمالية، ضاق هامش الحركة أمام هذه الكيانات، إذ شدّدت وزارة القوى العاملة في شروط الترخيص، ما أعاق إشهار نقابات تخص عمال الزراعة وصغار المزارعين. وعلى الرغم من ذلك، نجح البعض في تأسيس تنظيمات جديدة مستقلة عن الاتحاد الحكومي. وفي العام 2025 وافقت وزارة القوى العاملة على إشهار نقابة عامة للفلاحين وصغار المزارعين يرأسها الأستاذ عبد الفتاح عبد العزيز، ويبلغ عدد أعضائها أكثر من 35,000 فلاح وعامل زراعي موزعين على 11 لجنة نقابية في عشر محافظات.
في المقابل، يوجد أكثر من ستة آلاف تعاونية زراعية، من بينها 4,469 تعاونية ائتمان زراعي، و761 تعاونية تابعة لوزارة استصلاح الأراضي، و678 تعاونية في الأراضي المستصلحة، وجميعها تخضع لقانون التعاونيات الزراعية رقم 122 لسنة 1980 وتعديلاته. غير أن التعديل الذي أُدخل بالقانون رقم 204 لسنة 2014 شكّل منعطفاً خطيراً،
إذ سمح بدخول الأشخاص الاعتبارية في رأس مال المشروعات التي تنشئها التعاونيات بنسبة تصل إلى 25%، بحجة تنمية الإنتاج الزراعي. واليوم يجري الإعداد لتعديل جديد يسمح بزيادة هذه النسبة، وهو ما يهدد بنسف الفكرة التعاونية من جذورها وتحويل التعاونيات إلى أدوات تخدم المشاريع الرأسمالية الكبرى بدلاً من دعم المزارعين.
سبيل الاستعادة: نحو سياسة جديدة للريف والزراعة
إن الخطوة الأولى لاستعادة قوة الفلاحين وقدرتهم على الدفاع عن مصالحهم تبدأ بفتح المجال أمام التنظيم النقابي الحر بالإخطار، وإنهاء هيمنة وزارة القوى العاملة على عملية إشهار نقابات عمال الزراعة وصغار المزارعين.
كما يبرز الاحتياج الملح لإصدار قانون موحد للتعاونيات يخضع لإشراف واحد، ويعيد الاعتبار للمبادئ التعاونية الأصلية التي جرى تفريغها في خلال مرحلة رسملة التعاونيات، فوجود تنظيم نقابي وتعاوني مستقل ليس ترفاً، بل يمثل الشرط الأساسي لاستعادة القوة الاجتماعية للفلاحين وعمال وعاملات الزراعة.
وإلى جانب ذلك، تكتسب عودة الدورة الزراعية أهمية كبرى لضمان السيادة الغذائية وتحقيق توازن حقيقي في توزيع المحاصيل وفق الاحتياجات الوطنية. ويستلزم هذا إعادة إحياء دور الإرشاد الزراعي وربط مراكز بحوث الزراعة والري والصحراء وكليات الزراعة مباشرة بالمشكلات التي يواجهها المنتجون،
مع تقليل الاعتماد على الأسمدة الكيماوية، وتعزيز برامج إكثار البذور المحلية، والاتجاه نحو الأسمدة العضوية والزراعة البيئية. كما يجب الحد من استخدام المبيدات عبر التوسع في الزراعة البيولوجية التي تقوم على التنوع الحيوي. وفي موازاة ذلك، ينبغي استعادة منظومة التمويل التعاوني للزراعة بديلاً عن التمويل التجاري القائم حالياً، والذي أثبت عجزه عن خدمة الفلاحين الصغار.
إن النهوض بالريف المصري وبالفلاحين ليس خياراً جانبياً، بل هو الشرط الأول لاستعادة الزراعة المصرية وتحقيق السيادة الغذائية وتقليل الاعتماد على الخارج
إن النهوض بالريف المصري وبالفلاحين ليس خياراً جانبياً، بل هو الشرط الأول لاستعادة الزراعة المصرية وتحقيق السيادة الغذائية وتقليل الاعتماد على الخارج. غير أن تحقيق ذلك لن يكون ممكناً ما دام الريف خاضعاً لمنطق التحرير العشوائي للسوق، وللسياسات التي تطيح بحلقات الإنتاج وتقصي من ينتجون الغذاء فعلياً. إن المطلوب اليوم ليس إجراءات تقنية متفرقة،
بل تغيير في اتجاه السياسة الزراعية نفسها، يعيد الاعتبار للريف بوصفه قاعدة اجتماعية واقتصادية لا يمكن لأي مشروع وطني أن يقوم من دونها. فمن دون تحرّر الفلاحين وتنظيمهم وقدرتهم على الفعل الجماعي، ستظل مصر رهينة تبعية غذئية لا ترحم، مهما تبدّلت الحكومات وتغيّرت الشعارات.





