مقالات وآراء

حسام بدراوي يكتب إلى أقباط مصر: كل عام وأنتم بخير

الدولة المدنية لا تُبنى فقط بالقوانين والمؤسسات، بل تُبنى أولًا بالمعرفة، وبالقدرة على تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة، لا بأسمائها الشائعة.

ومن أكثر القضايا التي تكشف ارتباك الوعي في مجتمعاتنا، مسألة الاسم، والهوية، والأصل:


من هو المصري؟
ومن هو القبطي؟


وهل نحن أمام توصيف ديني، أم انتماء حضاري أسبق من الأديان؟

كلمة قبطي ليست توصيفًا مسيحيًا في أصلها، بل توصيفًا مصريًا خالصًا، ضاربًا في عمق التاريخ قبل المسيحية وقبل الإسلام.
القبط هم المصريون، والمسيحية احتضنت الاسم، لكنها لم تخلقه.

وعندما دخل المسلمون مصر، لم يدخلوا أرضًا بلا شعب، ولا تاريخًا بلا هوية.
دخلها — وفق الوقائع التاريخية — نحو خمسةٍ وعشرين ألف مسلم، في مجتمع تعداده يقارب المليوني نسمة.
هذا يعني، علميًا وتاريخيًا، أن المسلمين المصريين اليوم هم في غالبيتهم الساحقة أقباط اعتنقوا الإسلام، لا وافدون عرقيًا، ولا قطيعة حضارية.

والتنازل عن هذا الأصل، ليس تواضعًا، بل تفريط في الذاكرة.

الدولة المدنية لا تخاف من الجذور:
الدولة المدنية لا تُبنى على محو الأصول، بل على تحريرها من التوظيف الديني أو السياسي. وحين نقول إن المسلمين المصريين أقباط، فنحن لا “نُسيّح” الهوية المسيحية، ولا نُربك العقيدة الإسلامية، بل نضع كل عقيدة في موضعها الصحيح:
اختيارًا إيمانيًا داخل انتماء وطني واحد.

الدولة المدنية لا تقول: “أنسوا من أنتم”، بل تقول: “لا تجعلوا ما تؤمنون به سببًا لتقسيم ما تنتمون إليه”.

الشائع ليس دائمًا صحيحًا، والانسياق وراء الشائع — حتى لو كان حسن النية — ليس فضيلة فكرية.
الواجب الأخلاقي للمثقف هو الإيضاح، لا المجاملة.

نعم، ارتبط لفظ قبطي في الاستعمال المعاصر بالمسيحية، لكن هذا الارتباط طارئ، ولا يجوز أن ينسخ الأصل.
لو قبلنا الشائع دون تصحيح، نكون قد ساهمنا — دون قصد — في إعادة إنتاج منطق الطوائف، وهو منطق نقيض للدولة المدنية.

النسب، العلم، وكشف الوهم


يربط البشر النسب بالأب، ويتجاهلون الأم، كأن الهوية تُورَّث في خط واحد.
لكن العلم كسر هذا الوهم. فحين تُظهر دراسات الحمض النووي أن مسلمًا مصريًا ينتمي بنسبة ساحقة إلى الجذر المصري القديم، فهذا ليس رأيًا، بل حقيقة علمية.

قد ينتسب الإنسان روحيًا أو اسميًا إلى سلالة شريفة، كما في الانتساب إلى علي بن أبي طالب، كحالي وأسرتي توثيقًا، وهو شرف عظيم، لكن هذا لا يلغي انتمائي الحضاري والجيني للأرض التي وُلدت عليها وأجدادي عبر آلاف السنين.

بهذا المعنى، فالمصري المسلم الذي تُظهر الجينات أنه مصري أصيل، هو قبطي بالعلم، مسلم بالعقيدة، مصري بالهوية، ولا تناقض في ذلك.

الدولة المدنية ليست حيادًا ثقافيًا، بل عدالة معرفية.


وإعادة الاعتبار لكلمة قبطي بوصفها اسمًا للمصري، لا يجب تجنبها أو الهروب منها، بل هي خطوة في اتجاه:
• نزع الطائفية
• تحرير الدين من العرق
• وتحرير الوطن من الانقسام

نحن لا نعود إلى الأصل لننغلق، بل لننفتح دون خوف. فالقبط ليسوا طائفة، بل ذاكرة وطن. ومن لا يعرف ذاكرته، لن يبني دولة مدنية حقيقية.

كل عام وقبط مصر — مسلمين ومسيحيين وغير منتمين — بخير ومحبة وسلام.
كل عام والبشرية بسلام.
عيد ميلاد مجيد للسيد المسيح، سواء كان في ديسمبر أم كان في يناير، وسنة حلوة كلها محبة ومودة وتسامح وسلام.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى