مقالات وآراء

حسن نافعة يكتب : عن المأزق المؤسسي للنظام الدولي المعاصر

حين تقوم الدولة الأقوى في العالم بحماية المجرم، بدلاً من إلقاء القبض عليه وعقابه، وبمطاردة القاضي، بدلاً من حمايته وطمأنته، فمن حقنا أن نتساءل عما إذا كان ذلك كله من علامات اقتراب الساعة.

ولد النظام الدولي المعاصر، والذي شكلت الأمم المتحدة إطاره المؤسسي الجامع، من رحم الحرب العالمية الثانية، واختلف كثيراً عن نظام ما بين الحربين الذي شكلت “عصبة الأمم” إطاره المؤسسي الجامع. فروسيا والولايات المتحدة الأميركية لم تنضمّا إلى عصبة الأمم، رغم مشاركتهما في الحرب العالمية الأولى، ما مهد الطريق لسيطرة القوى الاستعمارية الأوروبية عليها، خصوصاً بريطانيا وفرنسا. فقبل انتهاء هذه الحرب، اندلعت في روسيا ثورة كبرى أسقطت النظام القديم، وأقامت على أنقاضه دولة جديدة لم يسمح فيها بالالتحاق في عصبة الأمم إلا عام 1934 وكانت الدولة الوحيدة التي طردت منها عام 1939.

أما الولايات المتحدة فلم تنضم إليها بإرادتها، رغم الدور المحوري الذي لعبه الرئيس ويلسون في تأسيسها، بسبب رفض الكونغرس التصديق على معاهدات الصلح، خشية من انغماسها في صراعات أوروبية لا تنتهي. ولذا، لم تكن الآليات التي استحدثتها العصبة في وضع يساعدها على الصمود في وجه التحديات والأطماع الاستعمارية لليابان العسكرية وإيطاليا الفاشية وألمانيا النازية، خصوصاً بعد أن اصطفت معاً في محور تسبب في إشعال الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى انهيار العصبة وإلى تأسيس الأمم المتحدة التي ما تزال قائمة حتى يومنا هذا. 

تضمن ميثاق الأمم المتحدة من المبادئ والقواعد والآليات التي شكلت منظومة متكاملة ومحكمة للأمن الجماعي، غير أن تشغيل هذه المنظومة توقف على إجماع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ما يعني أنها بنيت على فرضية مفادها أن التحالف الذي تشكل إبان الحرب العالمية الثانية وانتصر فيها سيستمر بعدها، وهو ما لم يحدث.

فبعد سنوات قليلة من قيام الأمم المتحدة، انقسم هذا التحالف إلى معسكرين متصارعين، أحدهما بقيادة الاتحاد السوفياتي والآخر بقيادة الولايات المتحدة، ما أدى إلى عدم استكمال آليات المنظومة نفسها، وإلى إسراف في استخدام حق الاعتراض الممنوح للدول دائمة العضوية وحدها (الفيتو)، وإلى ظهور الأحلاف العسكرية التي تتناقض بطبيعتها مع مفهوم الأمن الجماعي وتستبدله بمفهوم “مناطق النفوذ”، ما تسبب في شلل كبير في أداء المنظومة نفسها. خصوصاً بعد أن تبيّن أن الأمم المتحدة لن تتمتع بأي قدر من الفاعلية إلا في الأمور التي يحدث حولها إجماع بين الدول دائمة العضوية، النادرة التحقق في عالم منقسم إلى معسكرين تدور بينهما حرب باردة!

 لم يترتب على شلل مجلس الأمن انهيار الأمم المتحدة، كما حدث لتجربة العصبة، غير أن السبب في بقائها لا يعود إلى حيوية ما تقوم به من أدوار ووظائف متعددة أو إلى فاعلية الآليات أو الأجهزة المكلفة بالقيام ببعض هذه الأدوار، وإنما يعود في المقام الأول إلى “توازن الرعب النووي” الذي أدى إلى استحالة اندلاع حرب عالمية جديدة، وفرض على الأمم المتحدة في الوقت نفسه التكيف الدائم والمستمر مع التحوّلات التي تطرأ على النظام الدولي في مراحل تطوره المختلفة. ولأن النظام الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية ما زال قائماً حتى الآن، رغم ما طرأ على موازين القوى فيه من تحولات هائلة، فقد كان على أجهزة وآليات وحتى وظائف الأمم المتحدة نفسها أن تتكيف بشكل دائم ومستمر مع كل هذه التحولات، والذي انتقل النظام الدولي المعاصر، في سياقها، من نظام يقوده تحالف القوى الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، والتي أصبحت لاحقاً دولاً دائمة العضوية في مجلس الأمن (1945-1949) إلى نظام ثنائي القطبية يغلب عليه الطابع الصراعي (1949-1985)، إلى نظام ثنائي القطبية يغلب عليه الطابع التعاوني (1985-1991)، إلى نظام أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة منفردة (1992- 2008)، إلى نظام يسعى للإفلات من قبضة الهيمنة الأميركية، من دون أن يتمكن بعد من تحقيق تعددية متوازنة ومستقرة تستند إلى قواعد وقيم متوافق عليها من جانب القوى والأقطاب التي تتنافس على قيادته.

ولأننا لا نستطيع في هذه العجالة تناول أسباب وسمات الاختلاف في الطريقة التي أدارت بها الأمم المتحدة مختلف الأزمات الدولية، عبر كافة مراحل التطور التي شهدها النظام الدولي المعاصر حتى الآن، نكتفي هنا بتسجيل مجموعة من الملاحظات التي يمكن إجمالها على النحو الآتي:

الملاحظة الأولى: تتعلق بالأزمات التي تكون إحدى القوتين العظميين طرفاً مباشراً فيها. ففي هذا النوع من الأزمات، لم تكن الأمم المتحدة قادرة على القيام بأي دور، مهما بدا محدوداً، للتأثير على مسارها، لا من خلال منظومة الأمن الجماعي التي يديرها مجلس الأمن، ولا من خلال آلية “الاتحاد من أجل السلام” التي استحدثتها الجمعية العامة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي. والأمثلة على هذا النوع من الأزمات كثيرة.

فقد انخرطت الولايات المتحدة في أزمات متنوعة استخدمت فيها القوة العسكرية بكثافة أو أقدمت خلالها على غزو واحتلال دول أخرى، كالحرب الفيتنامية (1955-1975)، وغزو العراق واحتلاله (2003-2011)، وغزو أفغانستان واحتلالها (2001-2021). كذلك الحال بالنسبة إلى روسيا حالياً (أو الاتحاد السوفياتي سابقاً)، حيث تدخلت عسكرياً لقمع ثورة المجر (1956)، ولقمع الحركة الإصلاحية في تشيكوسلوفاكيا (1968)، وقامت بغزو واحتلال أفغانستان (1979-1989) وشنت حرباً على أوكرانيا ما تزال مشتعلة حتى الآن (2022- الآن). وفي جميع الأحوال، تظل الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي قامت بشن حرب على دولة رفض مجلس الأمن أن يصرح لها باستخدام القوة ضدها (الحرب على العراق عام 2003)

الملاحظة الثانية: تتعلق بنمط ودلالات تطور استخدام الفيتو في مجلس الأمن. فحتى منتصف ستينيات القرن الماضي، لم تلجأ الولايات المتحدة إلى استخدام الفيتو على الإطلاق، بينما استخدمه الاتحاد السوفياتي 101 مرة في الفترة نفسها، ما يدل على أن الاتحاد السوفياتي كان معزولاً على الساحة الدولية، وبالتالي لم يجد سوى الفيتو سلاحاً لحماية مصالحه خلال تلك الفترة.

غير أن هذا النمط بدأ ينعكس تدريجياً منذ ذلك الوقت إلى أن وصل حالياً إلى النقيض. ففي الفترة من 1966-1975، استخدمته الولايات المتحدة 12 مرة مقابل 7 مرات فقط للاتحاد السوفياتي، ثم 34 مرة خلال الفترة 1976-1985، مقابل 6 مرات فقط للاتحاد السوفياتي، وخلال فترة تولي غورباتشوف للسلطة، لم يستخدم الاتحاد السوفياتي الفيتو على الإطلاق، بل وأصبح الدولة الأقل استخداماً للفيتو على الإطلاق منذ ذلك الحين، بينما أصبحت الولايات المتحدة هي الأكثر استخداماً للفيتو، ما يؤكد أنها أصبحت الأكثر عزلة على الساحة الدولية.

الملاحظة الثالثة: تتعلق بمدى الاستعداد لإعادة إحياء منظومة الأمن الجماعي. فالمادة 47، المتعلقة بتشكيل ومهمات لجنة أركان الحرب، والمادتان 43 و 45، المتعلقتان بالتزام الدول بإعداد وتجهيز قوات مسلحة يمكن لمجلس الأمن استخدامها عند الضرورة، هي مواد غير مفعلة ولا يحتاج تفعيلها إلى تعديل ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي يكفي أن تجتمع لجنة أركان الحرب المشكلة من رؤساء أركان الحرب في الدول دائمة العضوية بانتظام، وأن تتفق على أسلوب ملائم لدخولها حيز التنفيذ ليصبح تحت تصرف مجلس الأمن جيش دولي قابل للاستخدام عند الضرورة.

وقد لاحت إبان أزمة احتلال الكويت فرصة فريدة لإعادة إحياء منظومة الأمن الجماعي ككل، غير أن الولايات المتحدة تعمدت إهدارها وأدارت الأزمة بطريقة عجلت في انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم تكن بقية الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن في وضع يسمح لها بتحدي الولايات المتحدة في ذلك الوقت أو لها مصلحة في الضغط من إجل إعادة تفعيل منظومة الأمن الجماعي. غير أن موقف الولايات المتحدة بالذات من هذه المسألة يعد دليلاً قاطعاً على أنها لم تكن في أي يوم من الأيام حريصة على إصلاح الأمم المتحدة، وأصرت دائماً على الإبقاء على هذه المنظمة الأممية ضعيفة لتصبح أداة طيعة في يدها بدلاً من أن تتحول إلى صانع قرار في النظام الدولي.

الملاحظة الرابعة: تتعلق بتأثير العلاقة الخاصة التي تربط بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” على مستقبل التنظيم الدولي. فـ”إسرائيل” هي أكثر دول العالم على الإطلاق انتهاكاً للقانون الدولي، وخروجاً على الشرعية الدولية، وإصراراً على تحدي المجتمع الدولي كله، بدليل إقدامها على شن حرب إبادة جماعية على شعب فلسطيني تتعمد تجويعه وإجباره على الهجرة القسرية من وطنه في الوقت نفسه، رغم أن جميع وسائل الإعلام العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي تنقل بشاعة ما يجري على الهواء مباشرة ولعامين متواصلين، لكنها تبدو مطمئنة كل الاطمئنان، وعلى يقين تام من أنها في مأمن تام من العقاب لا لشيء إلا لعلاقة خاصة تربطها بالولايات المتحدة.

ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يثير هذا الوضع تساؤلات ملحّة حول حقيقة الموقف الأميركي من الأطر المؤسسية للتنظيم الدولي المعاصر، وما إذا كانت الدولة الأقوى في العالم مستعدة للتضحية بالعالم كله من أجل إنقاذ علاقتها الخاصة بالدولة الأكثر إجراماً ووحشية على الساحة الدولية.

فالولايات المتحدة لم تكتف بتسخير الفيتو لحماية “إسرائيل” (أكثر من 90% من عدد مرات استخدام الفيتو الأميركي كان لحماية “إسرائيل” ولتمكينها من مواصلة جرائمها)، وإنما أقدمت في الوقت نفسه على مطاردة وتهديد قضاة المحكمة الجنائية الدولية وقضاة محكمة العدل الدولية بل وهددت بفرض عقوبات على الدول التي تجرؤ على مقاضاة “إسرائيل” أمام هذه المحاكم.

حين تقوم الدولة الأقوى في العالم بحماية المجرم، بدلاً من إلقاء القبض عليه وعقابه، وبمطاردة القاضي، بدلاً من حمايته وطمأنته، فمن حقنا أن نتساءل عما إذا كان ذلك كله من علامات اقتراب الساعة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى