
شاهدت فيلم الست من حوالي ١٥ يوم وقررت الكتابة عنه، لكن شهد كانت موجودة في إجازة قصيرة ففضلت التفرغ لها قبل سفرها، وأعطاني ذلك فرصة للاطلاع سريعًا على معظم ما كُتب عنه – دون قصد مني.
وأدركت أنني لست بصدد الكتابة عن فيلم؛ فأم كلثوم، بما تمثله في الذائقة والذاكرة المصرية، هي سجل الذكريات الوجداني والعاطفي والوطني والاجتماعي للمصريين.
لم يستطع أو لم يُرد المؤلف إعطائها هذا المقام، وآثر الكتابة النفسية السيكولوجية التي يفضلها في معظم كتاباته، والتي لاقت رواجًا عند بعض من يطلق عليهم اليوم بالـ«چن زي».
ففضل تقديم أم كلثوم كإنسانة وصلت للقمة، والقمم عادةً باردة، ويعاني أصحابها من الوحدة لأنها لا تتسع إلا لفرد واحد. وهذا صحيح في المطلق، لكنه لم يكن صحيحًا بالنسبة لأم كلثوم، التي لم تعانِ من الوحدة أبدًا، وكانت محاطة بالصديقات والأصدقاء طيلة حياتها.
ويرجع ذلك لشخصيتها العبقرية الذكية التي حرصت على إحاطة نفسها بالموهوبين في كل المجالات، وخاصة في الشعر والموسيقى، بل كانت تبحث عن تلك المواهب وتحرص على صداقتهم. فكل من لحن لها أو كتب كان صديقًا مقربًا، بل وصديقًا عائليًا تطلبه وقتما تريد.
كما أحاطت نفسها بسيدات صاحبات شخصية وذوق رفيع تأثرت بهن، ولعل صديقتها التي لازمتها، والتي قدمت دورها أمينة خليل، لعبت دورًا جوهريًا فيما بعد في اختيارات أم كلثوم لملابسها ومظهرها بشكل عام.
إذا أراد المؤلف التوقف والغوص في الشخصية، فهو لم يتوقف عند الذكاء والفراسة وخفة الدم، بل استسهل مقولة إن من يصل للقمة فهو بالضرورة تعس ووحيد. لكن أم كلثوم كانت استثناءً مؤكدًا بشهادات كل من عاصرها، فهي لم تتوقف عن الغناء حتى قبل رحيلها بقليل.
وإذا كان اختياره التوقف عند الشخصية، فقد أغفل تأثير الشيخ أبو العلا عليها وعلى شخصيتها منذ صغرها في الكُتّاب، وحفظ القرآن، ومخارج الألفاظ، وتدريبها على التلاوة. فهي من أنجب تلاميذ التلاوة المصرية، وهذا ما ميزها عن منيرة المهدية مثلًا، وكل من غنى من النساء في تلك الفترة وإلى الآن.
مخارج الألفاظ وجرس الكلمات التي تعلمتها من تلاوة القرآن وتنوع التلاوات هو ما أعطى هذا التفرد للصوت وللشخصية معًا.
صبية صغيرة من قرية طماي الزهايرة في السنبلاوين، رتلت القرآن وحفظت بعضه، يلمح مدرسها في الكُتّاب الشيخ أبو العلا شيئًا عبقريًا في الصوت والأداء، فيتبناها ويذهب بها لوالدها ليؤكد له على موهبة فذة قادمة.
تلك هي أسطورة أم كلثوم التي لم يتوقف عندها المؤلف، رغم أنها تدخل في صميم «أنسنة» أم كلثوم وأولى دعائم شخصيتها. وهو ما أفهم جيدًا أن الجيل الجديد يرفض تقديس الأفراد عند تقديم سيرهم الذاتية، وأنا معه، ولكن دون إغفال الحقائق.
أما بالنسبة للإخراج، فمروان حامد مخرج يملك أدواته جيدًا، لكنه بالغ في المؤثرات الصوتية رغبةً منه في الإبهار وتقديم فيلم له إيقاع جاذب للجيل الجديد، وهو ما قد حدث.
في التمثيل، منى زكي أجادت في حدود الورق والمكتوب، ولم يكن مطلوبًا منها الشبه الشكلي بقدر الاقتراب من الروح، وهو ما قدمته كما لديها في السيناريو.
عمرو سعد قدم دور جمال عبد الناصر بشكل مقبول. محمد فراج قدم أحمد رامي بشكل معاصر أكثر من اللازم، فابتعد كثيرًا عن روح رامي الذي قرأنا عنه. كذلك صدقي صخر في دور زوجها. والقصبجي، ذلك الرائع، لم يقنعني من قام بدوره.
لم يقدم الفيلم – الذي شارف على الثلاث ساعات – الشخصيات التي ساهمت في نقلاتها الموسيقية، وكنت أتمنى أن يتوقف عند جملتها الشهيرة: «هاتولي الواد ده»، عن بليغ حمدي عندما لمحت لديه جملًا موسيقية مختلفة، وطلبته واختبرته، ثم طلبت منه أن يلحن لها أول أغنية.
ليكشف كيف كانت تعرف الموهبة وترعاها.
كنت أتمنى أن يعطينا لقطات من جلساتها مع الشعراء، حين كانت تستبدل كلمات بغيرها، وهي الوحيدة القادرة على ذلك لإجادتها اللغة العربية وتذوقها للشعر.
أم كلثوم لم تكن مجرد مطربة، كانت مؤسسة فنية حفظت ذائقة المصريين الموسيقية والثقافية، وأرخت لزمن شكل وجدانهم بكل ما فيه. ومن هنا أتى الهجوم على الفيلم.
فمن يكتب عن أم كلثوم يجب أن يكون ملمًا بزمن كانت فيه الوحيدة التي لقبها المصريون بـ«الست»، بكل ما تختزله الكلمة من رمزية واحترام ودلالة.







