مقالات وآراء

د.تامر المغازي يكتب: في الغربة..الذهب تراب والتراب ذهب!

“الغربة قدر كثيرين، لكنها اختيار قلة”، بهذه الكلمات يصف البعض حالة المغتربين، ولكن هل يعكس هذا الوصف حقيقة المشاعر الجياشة التي تختلج في صدور من ابتعدوا عن وطنهم؟

قد تكون الغربة رحلة بحث عن الرزق أو العلم أو المستقبل، لكنها تظل رحلة شاقة، يحمل فيها المغترب قلبه بين ضلوعه كجواز سفر لا يُختم إلا عند العودة.

وهنا، من بعيد، نكتب بحبر الشوق عن مصر، الأم الحنون التي تحتضن النيل وتاريخ الآلاف السنين.

صورة الغربة قفص من ذهب، قد تمنحك الغربة فرصًا لم تكن تحلم بها، وتعيش في رخاء مادي قد يكون بعيد المنال في الوطن.

شوارع نظفة، مرافق منظمة، حياة مريحة بمعايير مادية صارمة.

لكنك سرعان ما تكتشف أن هذه الحياة أشبه بـ “قفص من ذهب”.

نعم، كل شيء متاح، إلا الشيء الأهم الروح.

تفتقد الدفء العفوي، الابتسامة الصادقة التي لا تنتظر مقابل، ضجيج الحياة الحقيقية الذي لا ينبعث من آلات، بل من نبض الشارع.

تفتقد رائحة الأرض بعد المطر، ونسمة الصباح على كورنيش النيل، وصوت أذان الفجر المتداخل من مآذن عديدة.

هنا، في الغربة، كل شيء محسوب، دقيق، بارد.

الرخاء يطعم الجسد، لكنه يترك القلب جائعًا لعناق الأرض الأم.

الوطن حيث الذاكرة تصنع الهوية مصر ليست مجرد مكان على الخريطة.

إنها حكاية ترويها حجارة الأهرامات وأعمدة الكرنك، وهي أغنية تهمس بها أمواج البحرين الأحمر والمتوسط، وهي نكهة مميزة في كل قرعة فول وطعمية تتناولها في زحام شارع محبوب.

الوطن هو المساحة الآمنة حيث تُفهم من نظرة، وتُحبط بعبارة، وتُحل مشكلتك بخطوات بسيطة.

هو ذلك الشعور الغامر بالانتماء حين تسمع اسم “مصر” في خبر ما، فيتسارع نبضك دون إرادة منك.

في الغربة، تدرك أن “تراب الوطن” ليس مجرد كلمات شاعرية إنه مختصر لتاريخك، وذكريات طفولتك، وعرق أجدادك، وحلم أبنائك.

هذا التراب هو الذي يمنحك الهوية الحقيقية، هو الجذر الذي إن ابتعدت عنه، شعرت بالذبول وإن كانت الأغصان في عنان السماء.

الاشتياق وجع جميل يربطنا بالأصل الاشتياق لمصر ليس حنينًا عابرًا إنه حالة وجودية.

هو ذلك الخيط الرفيع الذي يربط المغترب بوطنه خيط قد يبدو مؤلمًا أحيانًا لكن قطعَه يعني فقدان جزء من الروح.

يتجلى هذا الشوق في أبسط التفاصيل في البحث عن رغيف خبز بلدي يشبه رغيف الحارة، في متابعة مباراة للنادي الأهلي أعظم فريق بالكون عبر الإنترنت مع أصدقاء افتراضيين، في تذكر رائحة “كعك العيد” في بيت الجدة، أو حتى في الشكوى من حر الصيف المصري الذي تمنيت لو تعيش لحظة تحت شمسه الحارقة بدلًا من برودة الغربة المعنوية.

الاشتياق دليل على أن القلب لا يزال ينبض هناك، على ضفاف النيل.

العودة.. حلم يوقظ الهمم، لكن هذا الشوق ليس عجزًا أو استسلامًا.

على العكس، فهو ما يمنح المغترب القوة ليواصل.

إنه الحافز ليبذل أكثر، ويعمل بجد، ويحقق النجاح، ليس فقط من أجل مستقبل أفضل له، بل لعله يومًا ما يعود بكل هذا الخبرة والعلم والموارد إلى أرض الوطن، ليساهم في بنائه.

الغربة، رغم صعوبتها، قد تكون مدرسة قاسية تعلمك قيمة الوطن أكثر من أي خطبة حماسية.

وتظل العودة هي الحلم الذي يضيء طريق الكفاح، فكما قال الشاعر: “وحسبُ الناسِ عندي أنَّني **ببلادي والنَّوى أهوى بلادي”.

كلمه أخيرة للمغتربين في كل مكان، أنتم جسور مصر إلى العالم، وحملة شعلتها الحضارية.

اشتياقكم هو أقوى دليل على حب لا ينقطع.

واعلموا أن مصر تنتظركم، تحتضنكم دائمًا في قلوب من فيها، وتترقب اللحظة التي تعودون فيها حاملين غربتكم خبرة، وقلوبكم عامرة بحبها.

فالوطن لا ينسى أبناءه، وأبناؤه لا ينسون ترابًا هو أغلى من ذهب الدنيا كلها. قلبي مغترب ولكنه يرفع راية الحب لمصر دائما وأبدا .

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى