
أعتقد من قرائتي الفلسفية والروحية أن الإنسان ثلاثيّ البنية، جسد ونفس وروح.
الجسد: هو المركبة، هو الدماغ والعضلات والأعصاب وكل ما هو مادي، وتزول نهائيًا بعد الموت.
النفس: هي الذات التي تولد وتموت، تتغير وتنمو، ومخلوقة بذاتها.
أما الروح: فهي من أمر الله، لا تتغير، لا تموت، هي طاقة إلهية، هي “السر” الخالد فينا.
هناك من لا يفرّق بوضوح بين النفس والروح… معظم الفلاسفة الغربيين والعلماء يخلطون بين النفس والروح، بل يعتبرون النفس هي مجموع الوظائف الذهنية.
لكن وفق مفهومي، والنظرة الوجودية المتأملة، النفس شيء يتغير، والروح لا تتغير.
النفس تُحاسب على قدر خلقها، فهناك نفسًا أمارة بالسوء ونفسًا سوية، ولكل نفس مساحة للتطوير والنماء، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت…
الروح لا تخضع للموت أو الحساب، لأنها من أمر الخالق.
الجسد يفنى… النفس تُقبض… لكن الروح تبقى، لأنها ليست “شيئًا” بل “من أمرٍ” لا ندرك كنهه.
وهنا أتلاقى مع ما قاله بعض العلماء، إلى أن الوعي قد يستمر بعد توقف الدماغ عن العمل.
النفس هي ساحة المعركة الحقيقية. لها capacity، سعة تختلف من شخص لآخر، لكنها قابلة للتوسيع بالإرادة، بالعلم، بالتجربة، بالتأمل، بالإيمان…
يمكن للنفس أن ترتقي أو تهبط، أن تُطهّر أو تُدنّس.
العقل أداة الجسد…
أما الذهن فهو ساحة النفس.
العقل يشبه “الكمبيوتر”، والذهن هو “البرمجيات”، لكن الروح… ليست جهازًا ولا برنامجًا، بل الضوء الذي لا ينطفئ. هي الطاقة التي تجعل الوجود حيًا.
السؤال هو: هل يمكن أن تولد النفس أكثر من مرة؟
أن نستيقظ في جسد جديد، واسم جديد، وعينين لا تعرفان ما رأته العينان السابقتان، لكنهما تحملان في عمقها ظلّ ذكرى غامضة؟
منذ آلاف السنين، والإنسان يتساءل عن مصير روحه بعد أن يطوي الموت جسده.
في الشرق، تحدثت نصوص الفيدا عن “سفر الروح” من جسد لآخر، وفق قانون الكرما، كأن الوجود لا يختفي بل يتعدد ظهوره.
وفي فلسفة أفلاطون، الروح خالدة، تهبط إلى الأجساد ثم تعود إلى عالمها النقي.
أما الأديان الإبراهيمية، فوضعت الموت بداية حياة أخرى، لكنها في تياراتها الباطنية لم تستبعد فكرة أن الروح قد تعرف أجسادًا متعددة.
هنا الخلط بين الروح والنفس اللذان يتأثران ببعض.
الفلاسفة اختلفوا: إذا تغير الجسد والذاكرة، فهل تبقى “الأنا” هي نفسها؟
ربما، كما يرى بعضهم، الهوية ليست في تفاصيل الجسد أو قصاصات الذاكرة، بل في نواة أعمق، تشبه نغمة لا تتغير مهما تبدلت الآلة التي تعزفها.
في القرن العشرين، جمع الطبيب النفسي إيان ستيفنسون آلاف الحالات لأطفال يصفون تفاصيل حياة لم يعيشوها في ظاهر الأمر.
بعض القصص كانت دقيقة على نحو محير، لكنها لم تُقنع كل العلماء، إذ يفسرها آخرون بآليات نفسية أو ثقافية.
أما علماء الأعصاب، فيرون أن الوعي والذاكرة يسكنان الدماغ، ومع توقفه يتوقف كل شيء.
لكن هناك من يغامر أبعد من ذلك، ويتساءل إن كان الوعي ظاهرة كمومية فقد لا تفنى، بل تنتقل أو تعود في صورة أخرى.
ربما يكون التناسخ حقيقة كونية لم نفهمها بعد، وربما يكون استعارة عميقة:
فكل تجربة نمر بها تغيّرنا، تجعلنا “شخصًا جديدًا” دون أن نموت حرفيًا.
ألسنا، بشكل ما، نولد ونسقط وننهض من جديد مرات لا تحصى في الحياة الواحدة؟
سواء كان التناسخ انتقالًا حرفيًا للروح أو الوعي بإعادة خلق نفس النفس، أو رمزًا لدورات التحول الإنساني، فإنه يذكرنا بأننا لسنا محصورين في حدود الجسد الواحد.
نحن، كما يقول القلب حين يصمت العقل، أكثر قدمًا من الميلاد، وأبعد من الموت.
وربما، حين نغادر هذا العالم، نكتشف أننا كنا دومًا نكتب فصول رواية طويلة… لا تنتهي بما نظنه آخر صفحة.
المشهد الأول:
قرأ آدم بطل قصتنا إحصائية عن عدد البشر المنتمين للأديان المختلفة على الكرة الأرضية تقول:
توزيع عدد المنتمين إلى الأديان واللا دينيين في بشرية 2025 أن المسيحية تمثل ~28.8% من سكان الأرض البالغ 8 مليار، بتعداد ~2.3 مليار نسمة، وأن الإسلام يمثل ~25.6% من السكان بتعداد ~2.0 مليار نسمة.
المدهش أن غير المنتمين لأي دين (Unaffiliated) يمثلون ~24.2% من السكان بتعداد ~1.9 مليار نسمة — ومنهم الملحدون.
الهندوسية ~15–14% بتعداد ~1.16 مليار نسمة، والبوذية ~4% بتعداد ~500 مليون نسمة.
وأن هناك أديان متعددة أخرى (Folk) ~3–2% بتعداد ~430 مليون نسمة.
المثير أيضًا أن اليهودية التي تمسك بخناق البشرية وتتحكم في الغرب المسيحي وتضيق الخناق على الشرق المسلم أقل من 1% من سكان الأرض بتعداد ~15 مليون نسمة، حتى أقل من الديانات والثقافات الأخرى مثل البهائية والسيخ وغيرهم الذين يمثلون ~2–3% من سكان العالم بتعداد ~60 مليون نسمة.
دار في ذهن آدم أن في الأحلام تدور أحداث السنين في ثوانٍ ودقائق، وهي من عبقريات خلق العقل، فماذا لو كان هناك مركزًا في هذا العقل تُخزن فيه حيواتنا السابقة ونستطيع إذا فتحناه أن نشاهدها ونتعرف إليها.
تخيل أن هناك عمرًا للإنسان، يمكن أن يتكشف له، فيه، حيواته السابقة ويعيش ذكرياتها في لحظة إذا أدرك سر تحفيزها.
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل حين جلس “آدم” على شرفته المطلة على شارع هادئ.
الهواء الخريفي يحمل برودة خفيفة، لكن صدره كان يضيق بحرارة غريبة، ليست من الطقس بل من الداخل.
رفع بصره إلى السماء، فبدا القمر غائم الملامح، كوجهٍ يتذكره ولا يتذكره.
في تلك اللحظة، بدأ الصداع.
لم يكن صداعًا عاديًا، بل موجة من الصور تتدفق بلا إذن:
طفل يركض في زقاق، آخر يجلس قرب نافذة بيت حجري، وثالث يسير بين أزقة مدينة بعيدة.
وجوههم مختلفة، لكن أعينهم متطابقة… هي عيناه.
بيت ضيق في حي شعبي، صوت الأذان يتردد بين الجدران.
أب جالس أمام المذياع، يقول بحزم:
“إياك أن تختلط بغيرنا، نحن على الحق وهم على الباطل.”
يسمع آدم ويصمت، لكنه يرمق الشارع حيث يضحك أطفال من ديانات أخرى.
فجأة يرى نفسه شابًا في الثلاثينيات، يتلقى تدريبًا على استخدام السلاح، ويرى نفسه وهو يموج بالرغبة في حماية دين الإسلام ويقتل أعداءه من الكفرة من الأديان الأخرى، فكلهم إلى جحيم الله وهو إلى جنته.
فجأة يتغير المشهد ليرى نفسه طفلًا في بلدة صغيرة، جدران بيضاء، صليب خشبي فوق الباب، والأم تمسح على رأسه وتقول:
“احذر يا بني، لا تقترب من الذين ليسوا على دينك… لا يفهمون طريق الخلاص.”
يجلس عند النافذة، يرى أولاد الحي يلعبون كرة، يشعر برغبة جارفة أن ينضم إليهم، لكن يد أمه التي أمسكت به منذ قليل ما زالت تثقل كتفه.
والسؤال نفسه يتسلل إلى قلبه.
تقفز الصورة إلى نفس الشاب في الثلاثينيات من عمره وهو يلبس الرداء العسكري في جيش الملك ريتشارد، وهم على المراكب الحربية في طريقهم ليحرروا القدس من المسلمين الكفرة الذين لا يؤمنون بأن المسيح ابن الله ولا يعترفون بالإنجيل ويقولون إنه محرف.
ينتقل المشهد مرة أخرى إلى مدينة بعيدة، شوارعها مبللة بالمطر.
الأب يطوي الصحيفة ويقول:
“العالم لا يريد لنا الخير… نحن وحدنا نعرف الوعد. نحن شعب الله المختار، وكل من هو ليس يهوديًا لا يستحق الحياة.”
ينظر الفتى إلى المارة، بعضهم يبتسم له، وبعضهم يشيح بوجهه.
يبتلع السؤال، لكنه يظل في داخله كجمر خافت.
وينتقل المشهد إلى نفس الفتى في الثلاثينيات من عمره وهو على حائط البكي في أورشليم القدس، وكتيبته الإسرائيلية تقتحم المسجد الحرام وتجر النساء والأطفال، بحثًا عن ثلاثة مسلمين واثنان مسيحيان من الفلسطينيين الذين يواجهون الاحتلال اليهودي.
تداخلت المشاهد، وتراكمت الأصوات، حتى لم يعد يعرف أين يبدأ وأين ينتهي.
أدرك أن هذه ليست حيوات لآخرين… إنها حياته هو، عاشها بأجساد مختلفة، في أماكن مختلفة، لكن القلب واحد، والسؤال واحد.
نظر حوله في الشرفة، وكأنه يتوقع أن يرى وجوههم.
وفعلًا، جلس الثلاثة على الكراسي المقابلة له: المسلم، والمسيحي، واليهودي.
كانوا يتجادلون، كل منهم متمسك بجدار إيمانه، لكنه رأى بوضوح أن الطوب الذي بُنيت منه هذه الجدران واحد.
ابتسم ببطء، وقال لهم جميعًا، وكأنه يخاطب نفسه:
“لقد كنتُ أنا… في كل مرة كنتُ أظنه الآخر.”
ساد الصمت، وتبدد الجدار بين الكراسي.
شعر “آدم” لأول مرة أن صدره خفيف، وأن الليل أوسع مما كان يظن.
كان يعرف أن الإجابة التي هربت منه طوال ستين عامًا… قد وجدها أخيرًا.
في آخر العمر، اكتشف أنه كان غريبًا في بيته، وعدوًا في مرآته، وسجينًا في جدران صنعتها يداه.
كان مسلمًا يتهم المسيحي، ومسيحيًا يحذر المسلم، ويهوديًا يظن أن العالم يكرهه…
وفي كل مرة، كان هو نفسه الآخر.
وحين سقطت الأسماء والحدود، بقي وجه واحد…
المشهد الثاني:
قال آدم المسلم: تعالوا يضع كل واحد فينا تحديًا أمام الآخرين نتهرب عادة من مواجهته خوفًا من إحراج بعض.
فرد آدم الملحد: قبل وضع تحديات تعالوا نتفق لماذا نحن أصدقاء، وما الرابطة التي تجمعنا، ونحن نعيش في أزمنة مختلفة وفي بلاد مختلفة وخلفياتها مختلفة رغم أننا نفس الشخص.
علق آدم المسلم: ربما لأننا ننتمي حضاريًا لمجموعة قيم متشابهة. إني أرى فيكم صدقًا، ورزانة، واحترامًا للاختلافات بيننا، وسعة صدر، وعمقًا ثقافيًا.
قال آدم المسيحي: وأنا أزيد عليك أنكم، وأنا معكم، نتمتع بقدر كبير من الشجاعة في إبداء الرأي، والنزاهة، والمسئولية.
قال آدم اليهودي: دعوني أضيف أننا كلنا نأتي من خلفيات علمية محترمة، ونعرف قيمة الصداقة ونسعى إلى دعمها بيننا.
قال آدم الملحد: أهم ما يجمعنا هو استخدامنا العقل والمنطق دائمًا في نقاشاتنا وحرصكم على إعلاء ذلك فوق العادات، مخترقين أسوار المعتقدات بالعلم والمعرفة.
وافق الجميع على ما يجمعهم، مما جعلهم يتشجعون للدخول في حوار حول اختلافاتهم الحالية والتاريخية والزمنية بلا حرج.
قال آدم اليهودي: سأبدأ أنا بصفتي أنتمي إلى أقلية عددية بين سكان العالم، فعددنا في العالم لا يزيد عن 15 مليون نسمة.
علق آدم المسيحي قائلًا: يعني كلنا على بعض ننتمي إلى نصف البشرية فقط، وهناك حوالي ثلاثة ونصف مليار إنسان لا ينتمون إلى جماعاتنا الدينية، يشاركونا الأرض والهواء، ويستمتعون معنا بالشمس والغذاء.
ابتسمنا وقلنا موجهين حديثنا إلى آدم اليهودي: فلتبدأ أيها الأقلية العددية والأغلبية المؤثرة في أسواق المال، وأسواق الجواهر والألماس، والخطيئة والسلاح.
قال باسمًا:
نحن نتميز عليكم بأننا شعب الله المختار، ونترفع عليكم بأننا الدين الوحيد الذي لم ينتشر بالحروب والغزو والقتل والأسر وإجبار الشعوب على نوع إيمانكم. والحقيقة نحن لا نود الانتشار أساسًا، بل نسعى لنقاء العرق وعدم الاختلاط. بل وأزيد أنه حتى نبينا موسى عندما نزلت عليه التوراة لم يدعُ المصريين إليها ولا حتى دعا فرعون، فقد كان يود فقط الخروج بقومه من البلاد، يعني كان يريد فيزا خروج وهو ما لم يُسمح له بها فهرب.
وقد كان صاحب معجزات، وهو الوحيد بين البشر الذي كلمه الله مباشرة باعتراف أنبيائكم.
إذن نحن اليهود أول الكتب المكتوبة، والمسيح واحد منا، والقرآن فيه عن موسى وعن بني إسرائيل أكثر من أي نبي آخر.
قال آدم المسلم: ماذا تعني؟
قال: موسى ذُكر في القرآن 136 مرة.
يعني أي جزء من القرآن في الأغلب يحتوي على اسم موسى من 4–5 مرات.
قصة موسى حُكيت في القرآن 10 مرات أو أكثر بطرق مختلفة وبمقاطع مختلفة ومن زوايا مختلفة.
أما الإنجيل فهو تطوير وتحديث للتوراة، ولا نعتبره كتابًا منفصلًا.
قال آدم المسيحي: إنت داخل فينا جامد، وتنسى أن اليهود كفروا المسيح عليه السلام وكفروا به ووشوا به، وكانوا سبب صلبه.
قال آدم المسلم: سنعود إليك يا مشاغب، وقد كان اليهود عبر التاريخ هم سبب مشاكل البشرية مع كل شعوب الأرض ومع عيسى ومحمد ومن آمنوا بهم.
وأضاف: أن الإسلام جاء مصدقًا لما جاء به الرسل من قبله، ونتمتع بهذا التسامح والقبول لكل الأنبياء رغم أنكم تنكرون رسالة محمد عليه السلام. وحتى صديقي الملحد يقول القرآن فيه: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
نحن نعترف بالجميع، وأنتم لا تعترفون بنا، إذن الإسلام أكثر سماحة.
وأضيف أن الإسلام والقرآن دين مكتمل، دنيا وآخرة، وقد شملت تعاليمه كل نواحي الحياة. إنه الدين الذي أتمم به الله رسالته إلى البشر وأكمل به رسائل كل الأنبياء. إننا نعتبر كل من آمن بالله وحده، ويلتزم بمكارم الأخلاق مسلمًا مسلمًا.
قال آدم المسيحي: لقد أنقذ السيد المسيح البشرية، ورفع عنها خطيئتها، وجاء نبيًا لا مثيل له بمعجزات لم يعرفها البشر قبله من أم عذراء، وأمرنا بالتسامح والأخوة والعفو والمروءة. إن كل أوامر المسيحية جاءت لصالح الإنسانية. ألا يدلكم أن عدد المسيحيين في العالم أكثر من كل الأديان الأخرى على أن رسالة الرب تنتشر وما زالت.
قال آدم الملحد: هل انتهيتم من الطرح؟ هل أنتم مستعدون؟
إنني لا أخشى القول لكم أننا أفضل من كل منتسبي الأديان.
قالوا: كيف يا فيلسوف؟
قال: إنني، وأتكلم عن شريحة كبيرة ممن لا ينتمون إلى أي دين، قد وصلنا إلى مجموعة القيم الإنسانية المحترمة التي قد تتفق مع كل فحوى الأديان ورسالتها الحقيقية بدون قائمة منزلة ومحددة من السماء. ونفعل ذلك ليس خوفًا من عقاب ولا رغبة في مكافأة، ولكن لأن ذلك هو الأفضل للإنسانية.
القيم مثل الصدق والمصداقية والأمانة وعدم إيذاء الآخرين وغيرها، والتي جاءت في الوصايا العشر في التوراة، التي أُخذت من المصريين القدماء، وما قاله المسيح وما أفهمه مما جاء في القرآن، كلها قيم نفعلها لأنها الأفضل للإنسانية وليست أمرًا وغصبًا علينا مثلكم.
استطرد آدم الملحد قائلًا: أنتم تعرفون طبعًا أن عمر البشرية حوالي 300 ألف سنة، وأن الحضارة بدأت من 12 ألف سنة فقط عندما عرف الإنسان الزراعة. لماذا لم يكن هناك أنبياء إلا في السنوات الأخيرة فقط؟
ولماذا تختلفون وتتحاربون وتتقاتلون عبر العصور مع أن قلب الأديان ليس فيه قتل ولا سرقة ولا سبي نساء؟
أنا أعتقد أن مخترعي الأديان كانوا أفاضل يرغبون في مصلحة البشرية، ولكن عبر التاريخ كان الدين يُستخدم للحكم والتحكم، وكلكم بينكم وبين بعض منافقين، تقولون ما لا تفعلون، وتستخدمون أديانكم برهبانكم وقساوستكم وشيوخكم لإرهاب البشرية وتخويفها والتحكم فيها بلا منطق ولا عقل.
إن ثورات التنوير في القرون الوسطى كانت للخروج من ظلم الكنيسة وظلامها. وما أرى اليوم من نفحات ترغب في تنوير المسلمين يقف أمامها شيوخ متعصبة تستخلص من الدين القتل والظلم وفرض الرأي على الآخرين.
كثير من المسلمين يعيشون نفس العصور المظلمة بدواعشهم وإخوانهم وأفرعهم من طالبان وبوكو حرام وغيرهم، التي ترهب العالم وترهب المسلمين المعتدلين منهم، ليكونوا نسخًا مكررة من مجتمعات عاشت من آلاف السنين، لم تملك لا علم ولا معارف اليوم.
يريدون ومقتنعون أن الاثنين مليار مسلم هم فقط أهل جنة النعيم بعد الموت، وأن كل من ليسوا على شاكلتهم ومعتقداتهم سيتم شويهم في نار جهنم، ولابد من جلدهم في الدنيا.
أما أصدقاؤنا اليهود، فهم لا يتوقفون عن إيذاء البشرية، وما يفعلونه باسم الدين في فلسطين يتعدى قوانين الغابة إلى أدنى تعريفات العنصرية تحت فلسفة وهمية عن الأرض الموعودة.
من الرب الذي لا يعترف إلا ببني إسرائيل ويتكلم معهم وحدهم تحت وهم شعب الله المختار.
اقرأوا كتبكم بالعقل وبمعرفة اليوم بلا تشدد وتعصب أعمى، وستنضمون إلى حقيقة أن مكارم الأخلاق اختيار وليس فرضًا، وأنك لن تسرق ولن تزني ولن تكذب لأن هذا ما يجب أن يكون عليه الإنسان، وليس خوفًا من عقاب ولا رغبة في مكافأة.
إن التسامح والعفو والإيمان بالحرية وتنظيمها لا يحتاج لتدخل إله، بل يحتاج إلى عقولنا وضمائرنا وتراكم حكمة الأجيال.
وللعلم، أنا غير متدين ولكني لست ملحدًا، لأني لست كأغلبية الملحدين الذين لا يؤمنون إلا بالمادة. فبعدما عرفت بالعلم أن كل مادة ما هي سوى طاقة، وأن البنية الأساسية للكون واحدة، وهي ما يسمى الكوارك، وداخلها شعيرات تتواجد كمادة وكموجة في نفس الوقت، غيرت مفهومي واعترفت بيني وبين نفسي أنه لا بد من مسبب لهذا كله بهذه العبقرية، ولكنه بالقطع ليس إلهكم الذي ينفي البشر الذين لا يقولون قولًا محددًا أو ينتمون لرجل يقول أنا وحدي رسول من عند هذا الرب.
أنا فقط لا أصدقكم أنتم من تدعون الانتماء لدين وتحاربون الآخرين الذين ينتمون لنفس الإله لمجرد الاختلاف في الشعائر واسم الدين.
أنا فقط، وهناك كثيرون غيري، لا يريدون الشعائر ولا الأوامر غير المنطقية ولا التصديق الأعمى بلا براهين، ولا يصدقون قصصًا تناقلها البشر ونحن نعلم في ضمائرنا أنها مستحيلة الحدوث.
أنا لا أؤمن بالمعجزات التي تحكونها، لأن الكون هو المعجزة، ونحن البشر هم المعجزة الكبرى، وإذا أراد إلهكم أن يريكم معجزاته فيكفيكم النظر حولكم وداخلكم.
المشهد الثالث:
التفت إلينا شاب كان جالسًا بجوارنا يستمع، ويبدو أنه كان مستمتعًا بالحوار، وقال: ممكن أضيف إلى ما تقولونه شيئًا؟
قلنا في نفس واحد: أهلاً وسهلاً، رأي الشباب يهمنا ولكن في إطار قواعد احترام وضعناها للحوار.
قال: لماذا لم تذكروا في كلامكم حكماء الشرق، وهم في رأيي أنبياء بمدخل مختلف؟
قال آدم الملحد بابتسامة خبيثة: تقصد الذين يؤثرون في الثلاثة مليار نسمة الآخرين من البشر الذين لا نمثلهم.
قال: نعم.
قلنا ونحن سعداء بثقافته: تفضل.
قال: العديد من فلاسفة الشرق تركوا أثرًا عميقًا وما زالوا يؤثرون في الفكر العالمي. بعض هؤلاء الفلاسفة هم:
كونفوشيوس من الصين، أسس فلسفة ترتكز على القيم الأخلاقية مثل الاحترام والعدالة والولاء العائلي. تُعد فلسفته أساسًا في الثقافة الصينية والآسيوية، وتركز على تطوير الذات وعلاقة الفرد بالمجتمع والدولة.
ولاوتسي، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد من الصين أيضًا، وأسس الديانة الطاوية، التي تدعو إلى الانسجام مع الطبيعة وفهم “التاو” أو “الطريق”.
وبوذا (سيدهارتا غوتاما)، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد من الهند، أسس البوذية التي تهدف إلى تحقيق التنوير والسلام الداخلي من خلال التغلب على الرغبات والتحرر من المعاناة.
وأزيد عليهم زرادشت، الذي تواجد قبل أنبياء الكتب السماوية التي لا تعترف بغيرها بلادكم، في القرن السابع قبل الميلاد من بلاد فارس، وهو مؤسس الديانة الزرادشتية، التي ترتكز على الصراع بين الخير والشر وحرية الاختيار بينهما.
ابتسمنا جميعًا ترحيبًا بإضافات هذا الشاب المثقف المتفتح نفسيًا وعقليًا، ومنعنا أنفسنا متعمدين سؤاله: أنت مسلم ولا مسيحي ولا يهودي، وكأنه لا يوجد سوانا على الأرض رغم أننا أقلية.
أضاف آدم قائلًا: والله معك حق يا بني، وأضيف إليهم ابن سينا من فارس، إيران الحديثة، ويُعرف بأرسطو الإسلام، وقدم إسهامات بارزة في الفلسفة وعلم النفس والطب.
وابن رشد من الأندلس، كان مفسرًا لأعمال أرسطو، وقد أثر بشكل كبير على الفكر الأوروبي والعربي، وعُرف بدعوته للتوفيق بين الفلسفة والدين.
هؤلاء الفلاسفة أسهموا في تشكيل مبادئ الفلسفة، وما زالت أفكارهم تؤثر في الفلسفة الحديثة، وتدعو إلى التأمل الذاتي والتوازن والعدالة.
البشرية أنجبت العديد من الأنبياء المباشرين وغير المباشرين بمفهومنا.
قال آدم المسيحي القبطي: إذا قرأنا صلوات أخناتون ما وجدناها تختلف عما نقول يا جماعة، فهو يتكلم فيها على نفس القيم ويتوجه إلى إله واحد ويدعو إلى المحبة والاحترام والتسامح.
دار في ذهن الجميع دعوة لإفاقة البشرية، وكأننا ننادي سويًا عبر الزمان واختلاف المكان ونقول:
أفيقوا يا بني الإنسانية، واخرجوا من دوائر الانغلاق، ودققوا النظر حولكم، سترون الله الحقيقي، ليس في أمر في توراة، ولا معجزة في إنجيل، ولا شعائر في إسلام.
غير معقول أنكم عندما وضعتم تحديات، رجعتم إلى نفس ما كان يقوله أجدادكم، ورميتم علمكم ومنطقكم.
أننا، والثلاثة مليار نسمة الذين لا يدينون بأدياننا ولا في طريقة تفكيرنا، كلنا وأنتم أمام تحدٍ واحد:
أن نعيش سعداء في سلام ومحبة، وأن ننقذ كوكبنا من شرورنا.
والمأساة أن كل خلافاتنا هي حول الثروة والسطوة والسيطرة، وهي تحديات من اختراعنا.
أفيقوا يرحمكم ربكم بأي إحساس تحسونه وبأي شكل تتصورونه، طالما يدعو للخير ومكارم الأخلاق والمحبة.
الخالق لا يحتاجكم، أنتم المحتاجون إلى رحمته وجماله.
لحظات سكون… ثم
توجهنا بالسؤال للشاب الذي أنار العقول وسألناه: هوه إنت اسمك إيه؟
رد بابتسامة: اسمي آدم.
أنا أنتم الجديد……
أنا أنتم غدًا……







