مقالات وآراء

حسام بدراوي يكتب : سفينة الزمن على ضفاف الأبدية . المتحف المصري الكبير

على حافة الصحراء، حيث يلتقي أفق الرمال بأفق السماء، تقف سفينةٌ من زجاجٍ ونورٍ، ليست لتبحر في الماء، بل في الزمن.
إن المتحف المصري الكبير – ليس مجرّد مبنى، بل آلة زمنيةصُنعت لتُعيد تشغيل شريط التاريخ بصوتٍ أعلى، وبصورةٍ أوضح، وبقلبٍ ينبض للأجيال القادمة.

انها اللحظة التي يتوقّف فيها الزمن ثم ينطلق.. تخيّل أنك تقف أمام هرم خوفو، وفجأة يُضاء المتحف خلفك كنجمٍ سقط على الأرض.
ليس هذا افتتاحًا، بل إعادة تشغيل للحضارة.
كأن مصر تقول للعالم:
كنتُ هنا قبل أن تُخترع الكتابة، وسأظلّ هنا بعد أن تُنسى اللغات

في تلك اللحظة، لا تُعرض الآثار فقط، بل لتروي الزمن.
تمثال رمسيس الثاني لا يقف ليُرى، بل ليُسأل:
«أيها الملك، هل ما زلتَ تحكم؟»
وتوت عنخ آمون لا يبتسم للكاميرات، بل يهمس للطفل الذي يمرّ بجانبه:
“كنتُ في عمرك حين حكمتُ أكمل مكان في العالم”

انه ليس متحفًا… بل حوارًا بين أرواح.

المتحف ليس مستودعًا للحجارة، بل غرفة حوار بين نفوسعبرت آلاف السنين.
هنا، يجلس الفرعون بجانب المهندس المصري الذي صمّم المتحف يتبادلان النظرات.

• الأول يقول: “بنيتُ هرمًا لأعيش إلى الأبد” و الثاني يرد: “وبنيتُ لك منزلًا يرى فيه العالم أبديتك”

وفي الظل، يقف حجر رشيد كشاهدٍ صامت، يبتسم لأن لغته – التي فكّها شامبليون – أصبحت الآن تُرجمة حية على شاشاتٍ تفاعلية، تتحدث بلغة كل زائر.

لأول مرة، تُعرض كنوز توت عنخ آمون كاملة في قاعةٍ واحدة، كأن الملك الصغير يعود ليفتتح قصره الجديد.
ولأول مرة، مركب خوفو – التي نامت ٤٥٠٠ سنة تحت الرمال – تطفو في بركةٍ من نور، كأنها تستعد لرحلةٍ أخيرة إلى النجوم.
ولأول مرة، يرى الزائر حجر نارمر ليس كقطعةٍ أثرية، بل كوثيقة ميلاد أول دولة في التاريخ.

هذا المتحف ليس للسياحة… بل للذاكرة الإنسانية.هذا المتحف لم يُبنى ليجذب السائح، بل ليُعيد للإنسان ذاكرته المفقودة.
في زمنٍ تُمحى فيه الهويات ، وفي اشراقة حياة ، تقف مصر لتقول:
«إن كنتم تبحثون عن جذوركم، فهي هنا، تحت قدميكم، في كل حجرٍ، في كل رمزٍ، في كل نفسٍ من نسيم النيل».

لم يكن هذا المشروع مصريًا فقط.
كانت اليابان تُموّل، واليونسكو تُشرف، والعالم يُتابع.
لكن الروح كانت مصرية.
المهندس الذي صمّم الواجهة الزجاجية، والعامل الذي رفع الحجر الأخير، والعالم الذي فكّ شفرة النصّ المنقوش – كلهم يحملون نفس الدم الذي جرى في عروق باني الأهرام وجدودنا القدماء. 

أيها السادة المستقبل يبدأ من هنا،

ففي المتحف، لا تنتهي الرحلة عند آخر قاعة ، بل تبدأ.
في معامل الترميم، يُعيد العلماء إحياء برديةٍ متهالكة.
في قاعات التعليم، يرسم طفلٌ مصريٌ او عالمي هرمًا بألوانٍ لم تُخترع بعد.
وفي الواقع الافتراضي، يمشي الزائر داخل معبدٍ لم يُبنَ في الماضي .

نحن لسنا زوارًا… نحن شهود،

فحين تدخل المتحف المصري الكبير، لا تدخل كزائر.
بل كشاهد.
شاهد على لحظةٍ تاريخية تُعيد فيها مصر كتابة قصتها بأحرفٍ من نور.
شاهد على حوارٍ بين الماضي والمستقبل، يقوده حجرٌ صامتوطفلٌ يضحك.

في النهاية، المتحف ليس مبنى.
بل نبض.
نبض مصر التي ترفض أن تُدفن في كتب التاريخ، وتُصرّ على أن تُعاش، تُروى، تُغنى، تُرسم، تُكتب…
إلى ما لا نهاية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى