شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : وجوه لا تغيب…. 77 عامًا على رحيل النقراشي باشا

• سبعة وسبعون عامًا انقضت، وما زال وجهه حاضرًا في وجدان مصر، لا بوصفه ذكرى عابرة، بل علامةً فارقةً في تاريخٍ تعلّم بصعوبةٍ كيف تُدار السياسة، وكيف يُدفع ثمنها.

• محمود فهمي النقراشي لم يكن طيفًا في سجل الحكومات، بل رجلًا تشكّل وعيه في قلب الحركة الوطنية، وسار طويلًا بين القانون والسلطة، محاولًا أن يوازن بينهما في زمنٍ اختلّ فيه الميزان.

• خرج من مدرسة سعد زغلول، وتشرّب معنى الوطنية التي لا تُختصر في الهتاف، بل تُبنى بالتراكم والصبر، وتُختبر عند الشدائد.

• عرف بيت الأمة، ووقف قريبًا من صفية زغلول، حيث السياسة أخلاق قبل أن تكون أرقامًا ومقاعد، وحيث الرمز أحيانًا أقوى من القرار.

• جمعته بالوفد علاقةُ انتماءٍ ثم اختلاف، فكان قربه من مصطفى النحاس قربَ رفاق دربٍ قبل أن تفرّقهم الرؤى، لا الخصومات الشخصية.

حين احتدمت الخلافات داخل الوفد، لم يكن الخروج تمرّدًا، بل انتقالًا من صيغةٍ إلى أخرى، بحثًا عن تصورٍ مختلف لإدارة الدولة في زمنٍ شديد الاضطراب.

• أسّس مع آخرين مسارًا سياسيًا مستقلًا، وظلّ يؤمن أن الدولة لا تقوم إلا على القانون، مهما بدا الطريق قاسيًا ومكلفًا.

• جاءت رئاسته للحكومة في لحظةٍ ملتهبة؛ حربٌ في الخارج، واحتقانٌ في الداخل، وساحةٌ سياسية مزدحمة بالتنظيمات والأفكار المتصارعة.

• اختار الجمع بين رئاسة الوزراء ووزارة الداخلية، فكان القرار ثقيلًا، لكنه عكس إيمانًا بأن المسؤولية لا تُجزّأ حين تتعرض الدولة للاهتزاز.

• في صباح الثامن والعشرين من ديسمبر 1948، كانت القاهرة تمضي إلى يومٍ عادي في ظاهره، بينما كان التاريخ يتهيأ لصفحةٍ دامية.

عند العاشرة إلا الثلث، دخل شابٌ يرتدي زيّ ضابط برتبة ملازم أول إلى صالة وزارة الداخلية بالطابق الأول، فتلقّى التحية العسكرية من الحراس، ومضى يتمهّل في السير، كأنه ينتظر إشارةً لا يراها سواه.

• بدا المشهد عاديًا، خطواتٌ بطيئة، نظراتٌ ثابتة، وصمتٌ يسبق العاصفة، فيما كان المصعد شاهدًا صامتًا على ما سيأتي.

• مع اقتراب العاشرة، تحرّك الشاب نحو المصعد، ووقف إلى جواره الأيمن، في انتظار وصول رئيس الحكومة.

• عند العاشرة وخمس دقائق، وصل النقراشي باشا، نزل من سيارته محاطًا بحرسه، واتجه نحو المصعد بخطواتٍ معتادة، لا تشي بشيءٍ غير انتظام اليوم.

• أدّى الشاب التحية العسكرية، فردّها النقراشي بابتسامةٍ عابرة، ابتسامة رجلٍ يثق في نظامٍ اعتاد أن يحميه.

• في اللحظة التي همّ فيها بالدخول إلى المصعد، ارتفع المسدس من خلفه، وانطلقت رصاصتان أصابتا ظهره، فسقط على أرض الوزارة غارقًا في دمه.

• ارتبك المكان، تداخلت الصرخات مع الأوامر، واندفع الحراس والجنود نحو مطلق النار، فانتزعوا السلاح من يده وسيطروا عليه في لحظات.

• نُقلت الجثة إلى غرفة وكيل إدارة الأمن العام صلاح الدين مرتجي، حيث أسلم النقراشي الروح بعد دقائق، وانتهت حياة رجلٍ في ذروة السلطة.

• أُعلن أن القاتل طالبٌ شاب بكلية الطب البيطري بجامعة فؤاد الأول، لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره، لتتحول الواقعة من حادث اغتيال إلى قضية رأي عام تهزّ المجتمع كله.

• سبقت الحادثةَ قراراتٌ سياسية جسيمة، من بينها حلّ جماعة الإخوان المسلمين في الثامن من ديسمبر 1948، في سياقٍ متوترٍ شهد حوادث عنف متفرقة خلال سنواتٍ سابقة.

• جاءت تلك القرارات في مناخٍ متشابك، تداخلت فيه السياسة بالأمن، والاحتجاج بالرصاص، والخطاب العام بالخوف والشك.

عقب الاغتيال، صدرت بيانات استنكار وتبرؤ، في محاولةٍ لاحتواء الصدمة، بينما ظلّ الشارع المصري مذهولًا أمام ما جرى.

لم تمرّ شهور حتى اغتيل حسن البنا، لتدخل البلاد في دوامةٍ جديدة من الأسئلة الثقيلة حول العنف وحدود السياسة.

• علاقة النقراشي برجالات الوفد، ومنهم فؤاد باشا سراج الدين، تعكس صورة جيلٍ كاملٍ حاول أن يحافظ على الليبرالية في زمنٍ كانت الرياح فيه عاتية.

• لم يكن الاغتيال نهاية أزمة، بل بدا كأنه افتتاح فصلٍ أكثر قسوة، تعلّمت فيه الدولة أن الرصاص لا يحسم الأفكار، بل يضاعف جراحها.

سبعة وسبعون عامًا مرّت، وبقيت الواقعة درسًا مفتوحًا في ذاكرة السياسة المصرية، يُقرأ كلما عاد العنف إلى الواجهة.

الاسم ما زال حاضرًا، لا بوصفه ضحيةً فقط، بل شاهدًا على لحظةٍ التقت فيها السلطة بالقانون، وافترقا على درج وزارة.

هكذا يظلّ النقراشي باشا جزءًا من سرد الدولة، صفحةً لا تُطوى، لأن ما كُتب فيها لم يكن دمًا فحسب، بل تحذيرًا متجددًا من أن السياسة حين تفقد عقلها، تدفع الأوطان ثمن ذلك طويلًا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى