
لم يكن حراك استقلال القضاة حدثًا نقابيًا معزولًا، ولا صراعًا مهنيًا محدود الأثر، بل كان واحدًا من أهم الروافد الصامتة والعميقة التي مهّدت لثورة يناير، وكسرت في وعي المصريين صورة الدولة المتماسكة من الداخل.
حين خرج القضاة عن صمتهم، لم يفعلوا ذلك دفاعًا عن امتيازات مهنية، بل عن فكرة العدالة نفسها، وعن حق المجتمع في دولة قانون حقيقية، وهو ما منح حراكهم وزنًا رمزيًا استثنائيًا.
بدأت جذور هذا الحراك تتبلور بوضوح مع انتخابات عام 2000، حين فُرض الإشراف القضائي الكامل بحكم المحكمة الدستورية. لأول مرة، وجد القضاة أنفسهم في مواجهة مباشرة مع السلطة التنفيذية، لا في قاعة محكمة، بل في قلب العملية السياسية.
ما رآه القضاة في تلك الانتخابات من تزوير فج، وضغوط أمنية، ومحاولات إفساد للإشراف، شكّل صدمة أخلاقية ومهنية عميقة، جعلت كثيرين منهم يدركون أن المشكلة لم تعد إجرائية، بل بنيوية.
من هنا، تحوّل مطلب استقلال القضاء من شعار قانوني تقليدي إلى قضية سياسية بامتياز. لم يعد الحديث يدور فقط حول ميزانية أو تفتيش قضائي، بل حول من يملك القرار في الدولة، وحول حدود تدخل السلطة التنفيذية في العدالة. شخصيات قضائية بارزة خرجت إلى العلن، وتحدثت بوضوح غير مسبوق عن التزوير، وعن دور وزارة الداخلية، وعن استخدام القضاء غطاءً لشرعنة نتائج مفروضة سلفًا.
بلغ هذا الحراك ذروته في الفترة بين 2005 و2006، مع معركة تعديل قانون السلطة القضائية، التي تصدرها شيخ القضاة المستشار يحيى الرفاعي. هنا لم يعد القضاة مجرد ناقدين، بل صاروا طرفًا في مواجهة مفتوحة. بيانات، مؤتمرات، جمعيات عمومية ساخنة، ووقوف واضح ضد إرادة النظام. للمرة الأولى، يرى المصريون قضاة يُستدعَون للتحقيق، ويُحالون للتأديب، لا لأنهم فاسدون، بل لأنهم قالوا الحقيقة. هذا المشهد كان كاشفًا وصادمًا في آن واحد.
كان حراك استقلال القضاء أحد أخطر روافد الطريق إلى ثورة يناير، لأنه واجه النظام من داخل بنيته القانونية. قضاة مثل يحيى الرفاعي ومحمود الخضيري وأحمد مكي وأحمد سليمان وحسام الغرياني وزكريا عبد العزيز وناجي دربالة وهشام جنينة كشفوا مبكرًا أن التزوير لم يكن انحرافًا عابرًا بل سياسة دولة. وحين فضح وليد الشافعي تزوير انتخابات 2010، انهارت آخر أوهام الشرعية. خروج القضاة من صمتهم أعاد الثقة للمجتمع بأن العدالة ممكنة، وأن النظام يفقد مشروعيته من داخله، فمهّد ذلك نفسيًا وسياسيًا للانتقال من صندوق أُفرغ من معناه إلى ميدان صار هو السياسة الأخيرة.
أثر هذا الحراك تجاوز الوسط القضائي بسرعة. في الشارع، بدأ الناس يدركون أن الدولة ليست كتلة واحدة، وأن داخل مؤسساتها من يرفض الانصياع الكامل. حين يتهم قاضٍ النظام بالتزوير، فإن ذلك يضرب شرعية الحكم في الصميم. العدالة، التي طالما قُدّمت كواجهة للنظام، صارت أحد مصادر إدانته. وهذا التحول كان بالغ الأهمية في كسر حاجز الخوف واليقين معًا.
سياسيًا، التقت معركة القضاة مع حراك أوسع. حركة كفاية، مطالب إنهاء التوريث، احتجاجات الصحفيين، ثم لاحقًا إضرابات المحلة. القضاة لم ينزلوا الميدان مع العمال أو الطلاب، لكن صوتهم كان حاضرًا بقوة في الخلفية، يمنح شرعية أخلاقية لكل احتجاج. حين يهتف الناس ضد التزوير، كانوا يستندون ضمنيًا إلى شهادة قضاة قالوا إن ما جرى جريمة في حق الإرادة الشعبية.
الأهم أن حراك القضاة أسهم في إعادة تعريف فكرة الثورة. لم تعد الثورة في المخيال العام فعل فوضوي أو تمردًا بلا سند قانوني، بل صارت استعادة للعدالة المغتصبة. هذا المعنى كان مركزيًا في يناير. كثير ممن نزلوا إلى الميدان لم يفعلوا ذلك بدافع أيديولوجي، بل بدافع شعور عام بأن الدولة فقدت الحد الأدنى من الإنصاف. القضاة كانوا من أوائل من قالوا ذلك بوضوح.
مع الوقت، نجح النظام في احتواء الحراك جزئيًا. ضغوط، انقسامات داخلية، إنهاك طويل النفس. لكن الأثر كان قد وقع بالفعل. فكرة استقلال القضاء صارت جزءًا من الوعي العام، وصار التزوير كلمة مدانة لا مسكوتًا عنها. وحين جاءت انتخابات 2010 المزوّرة على نطاق واسع، كان الغضب مضاعفًا، لأن الناس كانوا يعرفون أن ما يحدث ليس خللًا عابرًا، بل تحديًا سافرًا لفكرة العدالة ذاتها.
في يناير، لم يكن القضاة في مقدمة الصفوف، لكنهم كانوا في خلفية المشهد بقوة. إرث معركتهم كان حاضرًا في شعارات “عيش حرية عدالة اجتماعية”. العدالة لم تكن مجرد كلمة، بل تجربة مُنتهكة، ومعركة مؤجلة. وبعد الثورة، لم يكن صدفة أن يعود ملف القضاء إلى الواجهة سريعًا، وأن يصبح أحد ساحات الصراع الرئيسية بين الثورة والدولة العميقة.
هكذا، يمكن القول إن حراك استقلال القضاة لم يصنع الثورة وحده، لكنه كان أحد أعمدتها المعنوية. كشف كذب الدولة، وعرّى آلياتها، وأعاد للناس ثقتهم بأن مقاومة الظلم ممكنة من داخل المؤسسات قبل الشارع. وحين فُتح باب الميدان، كان هذا الوعي قد نضج بما يكفي ليعبر.
—
مختارات من كتابي:
يناير.. الثورة التي حلمت
والدولة التي انتقمت







