
أبو عبيدة.. صوت المقاومة الذي صدح فوق دويّ الصواريخ، في عالم الصراعات، حيث يحكم السلاح لغة الحوار غالبًا، يبرز أحيانًا صوت يختزل في كلماته روح أمة، وإرادة شعب، ويصبح رمزًا للمقاومة يتخطى حدود الجغرافيا.
هو صوتٌ لم نرَ وجهه قط، لكننا عرفناه من خلال هدوئه الواثق، وبلاغته المؤثرة، وتلك النبرة التي تجمع بين الحزم والتراحم.
إنه المتحدث العسكري الرسمي لكتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الذي أُعلن مؤخرًا عن استشهاده، ليفقد المشهد الفلسطيني والإعلامي أحد أبرز الأصوات التي شكلت الوعي الجمعي خلال معركة “طوفان الأقصى” وما قبلها.
الرجل وراء الصوت لم يكن “أبو عبيدة” مجرد ناقل للأخبار العسكرية، بل كان ظاهرة تواصلية فريدة.
ظلّ هويته الحقيقية طي الكتمان حفاظًا على أمنه، متخفّيًا خلافته العسكرية وغطاء الوجه، مكتفيًا باسمه الحركي الذي يحمل دلالات تاريخية عميقة (في إشارة إلى الصحابي الجليل أبو عبيدة عامر بن الجراح، فاتح القدس).
هذا الغموض الاختياري حول شخصيته حوّله إلى فكرة أكثر منه فردًا، فكرة المقاومة المتجسدة
كان صوته الوسيم، وعربيته الفصيحة، وأسلوبه الخطابي المتماسك يجذب الملايين عبر الشاشات، ليس فقط في العالم العربي، بل بين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية على مستوى العالم .
بلاغة الخندق أسلوب اتصالي متميز فقد تميز أبو عبيدة بأسلوب إعلامي يختلف عن النبرة الصاخبة التقليدية.
اعتمد على الوضوح والصراحة كان يعلن عن العمليات بدقة أرقام وأسماء ونوعية الأسلحة، مما منحه مصداقية عالية حتى لدى الخصوم.
الربط بين العسكري والسياسي والإنساني لم يكن يقتصر على سرد العمليات، بل يربطها بالسياق السياسي العام، ويدافع عن القرارات الاستراتيجية للمقاومة، ويُبرز الجانب الإنساني، مشيدًا بصمود المدنيين ومعزّيًا عائلات الشهداء.
خطاب موجه للعدو وللأمة كان يخاطب الإسرائيليين بلغة الردع والتحذير، ويخاطب الفلسطينيين والعرب بلغة العزة والوحدة والثقة بالنصر.
استخدام الرمزية واللغة الأدبية فقد كان يستشهد بالقرآن والشعر والتاريخ، ليجعل من بياناته خطابات ترفع المعنويات وتعمق الانتماء.
في قلب العاصفة “طوفان الأقصى” بلغت مكانة أبو عبيدة ذروتها خلال معركة “طوفان الأقصى” التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023.
أصبح ظهوره المنتظر حدثًا إعلاميًا بحد ذاته
كانت بياناته، التي تعلن عن تفاصيل المعارك وعمليات قصف المدن الإسرائيلية ومواجهات الجنود، المصدر الرئيسي للمقاومة عن سير المعارك من منظورها.
صوته كان خيط الأمل والثقة لملايين الفلسطينيين والعرب الذين كانوا يتابعون الملحمة في غزة.
كان حريصًا على تقديم صورة المقاوم المنظم، القادر على الضرب والتحمل، رغم الفارق الهائل في الموازين العسكرية.
الاستشهاد نهاية جسد وخلود صوت إعلان استشهاد أبو عبيدة، وإن كان متوقعًا في ظل حرب إبادة استهدفت كل ما في غزة، إلا أنه صادم.
لأنه يذكرنا بأن هذا الصوت الواثق لم يكن في ستوديو مكيف، بل كان في خنادق المواجهة، تحت القصف، مشاركًا في المعركة بسلاحه وكلمته.
استشهاده يؤكد مبدأ القيادة بالقدوة الذي تتبناه كتائب القسام، حيث لا يقتصر دور القادة على إصدار الأوامر من بعيد.
إرث يتجاوز الرجل فقد رحل أبو عبيدة جسدًا، لكن إرثه باقٍ نموذج الإعلام المقاوم أعاد تعريف الإعلام العسكري، من النبرة الدعائية إلى خطاب استراتيجي متكامل.
ورمز للوحدة فقد أصبح اسمه وشخصيته المجهولة جامعًا للفلسطينيين تحت مظلة المقاومة
كسر احتكار الرواية نجح، مع غيره من أصوات المقاومة، في كسر احتكار الرواية الإسرائيلية للحدث عالميًا، وفرض وجود رواية مضادة قوية ومتسقة.
وأصبح قدوة للأجيال و سيبقى نموذجًا للشاب المثقف، المتمسك بهويته وبلاغته، الذي يحمل البندقية والقلم معًا.
صوت من قلب المعركة
الشهيد أبو عبيدة لم يكن مجندًا في حرب إعلامية، بل كان مقاتلاً في معركة مصيرية، استخدم الكلمة سلاحًا لا يقل فتكًا عن الرصاصة.
كان صوته مرآة لضمير ثورة، وترجمانًا لإرادة شعب يرفض الانكسار.
رحيله خسارة للمقاومة الفلسطينية، ولكنه في الوقت نفسه تأكيد على أن سلسلة العطاء لا تنقطع، وأن لكل صوت صدى، وكل شهيد خلفًا.
ستظل كلماته الأخيرة، التي كان يختم بها بياناته: “وإلى لقاء قريب إن شاء الله”، ترن في آذان أعدائه وقلوب محبيه، وعدًا بمستقبل لن يصمت فيه صوت الحق، حتى في غياب أحد أبرز حامليه.







