
أجلس الآن في صمت ثقيل، أكتب وكأنني أودّع، وكأنني أبعث برسالة أخيرة قبل أن يتوقف كل شيء .. لا أدري لماذا أشعر أن هذه السطور قد تكون الأخيرة، أو لعلها مجرد محاولة يائسة مني لأتمسك بالحياة عبر حبر يوشك أن يجف.
أكتب لأنني لا أحتمل فكرة أن يرحل صوتي دون أثر، وأن تموت كلماتي قبل أن تجد من يقرأها، أن يغادرني القلم قبل أن أقول له: شكرًا لأنك كنت الوحيد الذي أنصت لي.
أتأمل وجعي كما يتأمل الغريق سطح الماء ولا يجرؤ على الصعود .. أكتب لأنني تائه، لأنني ضائع في دوائر الألم، ولأن الكتابة وحدها تمنحني فسحة من الأمل حتى وإن كانت ضئيلة.
أكتب لأنني كلما حاولت الصمت، عاد الحزن وفتح أبوابه على مصراعيه داخلي .. لم أعد أبحث عن النجاة، بل عن شكل جميل للغرق.
أسترجع مواقف جعلتني أُسحق من الداخل، وتمر أمام عينيّ لحظات لم أكن أظن أنني سأنجو منها، ومع ذلك، نجوت بفضل وكرم الله، أو ربما لم أنجو تمامًا، بل حملتها داخلي حتى أصبحت أثقل من أن أُخفيها.
كنت أظن أن الصبر يكفي، لكنني تعلّمت أن بعض الأوجاع لا يخففها الزمن بل يغيّر شكلها فقط .. كتبت عنها كثيرًا، لا لأُشفى، بل لأتذكّر أنني ما زلت أشعر.
أقابل أقداري بالحزن لا بالاعتراض، أُسلّم بما كتب لي رغم أني تمنيت غيره، أُقنع نفسي أن الخير فيما حدث، حتى وأنا أختنق منه.
أقول لنفسي إنني لا أعلم والله يعلم، لكن قلبي لا يكف عن السؤال: لماذا؟ أحاول أن أبتسم، أن أُجامل الحياة، أن أمارس الأمل كتمرين يومي، لكنني أحيانًا أفشل، أضعف، أعود طفلًا خائفًا يبحث عن دفء ضائع.
أُمسك بالقلم وكأنني أتشبث بطوق نجاة، أُصارح الورق بما لا أجرؤ على قوله لأحد، أُفرغ داخلي من الهموم فلا أرتاح، لكنني على الأقل أتنفّس.
صرت أردد في كل موقف يُثقِل قلبي ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾، لا بلساني فقط بل بروحي، لأنها وحدها العبارة التي تعطي المعنى لفقدي، لكسري، لانطفائي البطيء.
أستسلم للقدر ولكن بقلب موجوع، أبتسم للناس لكن خلف تلك الابتسامة وجع لا يُحتمل .. أعيش وأنا أُقنِع نفسي أن كل ما مررتُ به كان ضروريًا، وأنني لو لم أتألم لما عرفت قيمة الفرح.
ومع هذا، لا أنكر أنني تعبت، وأن قلبي سئم الانتظار، والخذلان، والانكسارات المتكررة .. صرت أُحاور نفسي كثيرًا: هل ما زال في القلب بقية حياة أم أن كل شيء انتهى بصمت؟
أختنق أحيانًا من عبء الحياة، لكنني أتنفس من ثقوب الكلمات .. أُعيد تعريف الأعباء، وأفهمها الآن على أنها مساحة فارغة خُلقت لأمل جديد .. أُمارس الكتابة كما أمارس البكاء، ليس ضعفًا بل لأنني إنسان.
أختنق بالكلمات التي لم أستطع قولها، وأكتب اليوم لأنني أريد أن أقول الآن إنني كنت أحزن كثيرًا، وأخفيه أكثر، وكنت أتألم بصمت، وكنت أضحك وأنا أبكي من الداخل، وأعترف أنني أحاول، فقط أحاول، أن أبدو بخير.
أُدوّن كل ما كنت أخاف قوله، وأمنح لحزني حقه في الظهور دون خجل .. أقترب من النهاية ولا أخافها، لأنني تعلمت أن أجمل النهايات قد تكون تلك التي كُتبت بحبر المعاناة.
أعيش على أمل أن الله لا ينسى عباده، وأنه وإن طال الظلام، لا بد من فجر يُبعث من بين الحطام .. أكتب كمن يودّع شيئًا عزيزًا، كأنني أودّع نفسي التي لم تعد كما كانت.
أمضي في حياتي غير واثق من الغد، لكنني متصالح مع نفسي ومع كل لحظة أحياها .. أُجاهد كي أظل أرى النور رغم كل الظلمة .. أُكرر لنفسي أن ما أملكه الآن يكفيني، حتى لو كان مجرد قلم لا يعرف الكلل.
أُصارحكم أنني ما عدت أبحث عن إجابات، لأنني بتُّ أفهم أن في الأسئلة بحد ذاتها راحة .. أُدرك أن من لم يُؤمن بأن الله يدبّر الخير حتى من قلب الكارثة، لم يعرف الإيمان حقًا.
أُقاوم كي لا أختفي فجأة دون أن أترك أثرًا .. أريد أن يقال إنني حاولت .. إنني أوجعتني الحياة، لكنني لم ألعنها .. إنني بكيت، لكنني لم أتحول إلى جثة تتنفس .. أريد أن يُقال إنني كتبت، وكتبت، حتى وهمس القلم في أذني أنه تعب مثلي، لكنه سيكتب حتى النهاية.
أختم بقلب يعي ما يقول: نعم، ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾، أقولها لا كعبارة تقليدية، بل كيقين حي يسكن صدري .. أعيشها في كل خسارة، وأؤمن بها في كل خطوة. ربما تكون هذه آخر كلماتي، لكنها الأصدق، والأكثر اكتمالًا في تاريخي كله .. أريدكم أن تقرؤوها وكأنني أصرخ فيها: لقد عشت .. لقد آمنت .. لقد كتبت.
أُنهي هذه الكلمات وأنا أشعر أنني تركت جزءًا من روحي هنا، لعل أحدهم يقرأه يومًا ويشعر بي .. أختم بما أؤمن به رغم كل شيء – قول الله تعالي – :
﴿ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾.
أقولها وأنا لا أملك سوى الدموع، وأمضي .. لعلها آخر مرة أكتب فيها، ولعل هذا الحزن هو ما يبقيني على قيد الحياة.