مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: انتظرت ملك الموت أسبوعا .. لكنه طلب مني الانتظار

أسبوع يمرّ عليّ لا كأيام الناس، بل كأنفاسي الأخيرة تُعدّ على مهل .. كل صباح أستيقظ كمن ينتظر زائرًا لا يُخطئ الطريق، ولا يتأخر عن الموعد.

أعيش وكأنني في غرفة الانتظار بين السماء والأرض، أترقّب الخطوة القادمة من ملك الموت، لا لأن روحي على وشك المغادرة، ولكن لأن قلبي معلق بمنحة لم تأتِ بعد.

محنتي، أو منحتي إن صح التعبير، ليست ألمًا في الجسد، بل ترقبًا ثقيلًا يشبه حافة الغروب، حيث لا الشمس تعود، ولا الليل يكتمل.

كل دقيقة تمرّ، تُشبه وقوفًا مهيبًا أمام مرآة المصير، أنتظر فيها نداءً من رب السماء، إشارة، علامة، أو حتى مجرد نفس أستدل به على أنني ما زلت في الطريق، وما ضللت.

فكان الليل ساكنًا حدّ الخوف، والهدوء حولي يقطعه ضجيج داخلي لا يُسمع، لكنه يمزق.

لم أكن مريضًا، ولم أكن حزينًا بمعناه العادي .. كنت فقط أعيش حالة من الترقب الحاد، كأن شيئًا عظيمًا على وشك الحدوث. ثم جاء. نعم، جاء ملك الموت .. لا وهمًا ولا تخيّلًا، بل حضورًا طاغيًا لا يُقاوم .. رأيته، شعرت به، عرفت أن الموعد قد حان.

وقفت .. لم أتراجع، لم أرتعد، لم أطلب وقتًا إضافيًا .. لكن المفاجأة لم تكن في حضوره، بل في كلماته .. نظر إليّ نظرة من يعرف كل شيء، ثم قال: “ليس بعد .. أُجّلت المهمة 48 ساعة.”

صُعقت .. ملك الموت بنفسه هو من يطلب تأجيل الرحيل؟ من يؤجل قبض الروح؟ لم أسأله لماذا، ولم يناقشني، فقط اختفى كما جاء .. وتركني في مواجهة السؤال الأكبر: لماذا منحتني الحياة مهلة لم أطلبها؟

48 ساعة مرّت، لم تكن وقتًا عاديًا، بل زمنًا مقدسًا. عشت كل لحظة فيها كأنها آخر ما أملك .. تأملت، بكيت، حمدت، سألت، راجعت نفسي، وأدركت أنني في انتظار شيء لا يُشبه الموت، بل يُشبه الميلاد. لم أكن على حافة النهاية، بل على عتبة بداية جديدة تنتظرني خلف هذا التأجيل الغريب.

وعندما اكتملت الساعات، عاد. كنت مستعدًا هذه المرة، لكن المفاجأة تكررت. قال لي: “الأمر مؤجل مرة أخرى، ستون يومًا.”

ستون يومًا؟! ملك الموت ذاته يُمهلني شهرين! كأن هناك أمرًا من السماء بتعليق أجلي، لا رحمة بي، بل اختبارًا أعظم من الموت نفسه .. اختبار الانتظار. انتظار الإجابة، انتظار المنحة، انتظار ما لم أعد أملك حياله شيئًا.

وهنا فهمت .. أنا لا أنتظر الموت، أنا أنتظر الفرج .. أنتظر النتيجة، تلك التي ظننت أنها لن تأتي، لكنها على الطريق .. وهذه المهلة الربانية، ليست مكافأة، بل عهد .. عهد بيني وبين خالقي أن أستعد، أن أتحمل، أن أؤمن، أن لا أتراجع ولا أفسد ما بيني وبين الله بخوف أو قنوط.

أنا مسلم، ولست ممن يحاججون الأقدار أو يساومون على الأمل .. أمري بيد من لا يُهزم أمره، ولا يُرد قضاؤه .. لكنني الآن مختلف.

تغيرت وأنا أعيش هذه المهلة .. لم تعد الحياة هي الحياة، ولم يعد الوقت هو الوقت .. كل لحظة أتنفسها باتت مقدسة، كل ساعة تمرّ عليّ وكأنها رسالة إلهية مخفية “لا تستعجل، ما سيأتي أعظم مما تظن.”

ليست هذه المدة استراحة، بل رحلة. كل يوم فيها دعاء، وكل ليلة فيها انكسار، وكل ثانية فيها رجاء. ومن وسط هذا الرجاء، ولدت يقينًا أن الله إذا أخر، فليُعطي، وإذا منح مهلة، فليُعدّنا لها.

المنحة التي أطلبها ليست ورقة تُوقع أو قرارًا يُصدر .. هي حياة، مسار، اختيار جديد أُعيد به بناء روحي من الرماد .. ملك الموت لم يكن نهاية، بل كان مرآة .. مرآة رأيت فيها حقيقة ضعفي، وصورة قدرتي على الثبات رغم الظلمة.

وفي ظلمات الانتظار، لم أجد عزاءً أعظم من مناجاة نبينا ذا نون يونس عليه السلام في بطن الحوت، حين لم يكن له منجى إلا الله، فقال، وقلت معه، وسأقولها حتى يأتي موعد المنحة أو الموت:

“فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ”.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى