
في زمنٍ تتكالب فيه النظم على تكميم الأفواه، وتتعالى فيه أصوات القمع فوق همسات الكلمة الصادقة، يخرج صوتٌ خافتٌ لكنه صلب، يعلن أن للكلمة الحرة أنصارًا، وللقلم المستقل صدى أكبر من الاستبداد.
من رحم القهر العربي، ومن بين أنقاض الصحافة المغدورة، وُلِدت مبادرة جديدة تحمل الأمل وتفتح شعاع نور في جدار الصمت.. شبكة الإعلاميين الديمقراطيين العرب، التي جرى تدشينها كمحاولة عربية جماعية جادة لإعادة الاعتبار للإعلام العربي كأداة مقاومة، لا كأداة ترويج وتزييف.
خطوة شجاعة تمضي عكس التيار السائد، وتعيد للإعلام وجهه الإنساني والديمقراطي بعدما شوهته سلطة المال وسطوة السلطان.
لقد شرفتُ بحضور اللقاء التحضيري الأول لتدشين هذه الشبكة، والذي دعا إليه المجلس العربي، وكان المشهد استثنائيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ مزيج من الحماسة والإصرار، مع الوعي بخطورة اللحظة.
وجوه عربية من كل مكان، يحمل كل منها حكاية، وبعضها يحمل آثار المنفى والملاحقة. لكن الرابط المشترك بينهم جميعًا كان واضحًا: التمسك بالكرامة والحق في الكلمة.
لم يكن اللقاء مجرد مناسبة بروتوكولية تُلتقط فيها الصور، بل كان حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الكفاح من أجل الديمقراطية، ومواجهة مفتوحة مع الاستبداد الذي تلبس أثوابًا شتى، من الرقابة إلى القوانين الجائرة، ومن المصادرة إلى الإخفاء القسري للحقيقة.
اجتمع إعلاميون وصحفيون وأكاديميون من شتى أنحاء العالم العربي، لا ليتبادلوا المجاملات، بل ليضعوا أيديهم في يد بعضهم البعض، ويبدأوا رحلة التشبيك والتواصل، نحو بناء جبهة إعلامية تنصر الحرية، وتُحسن رواية الحقيقة، وتزرع الأمل في النفوس التي أرهقها التزييف.
ما يميز هذه الشبكة أنها لا تسعى لأن تكون مؤسسة جديدة تنافس القائم، بل تريد أن تكون جسرًا للتواصل والتكامل بين الإعلاميين المؤمنين بالتحول الديمقراطي، ساحةً لتبادل الخبرات والدروس والتجارب، ومنصة تنقل صوت الشعوب التي حُجِبَت عنها العدسات وحوصرت بالرقابة.
نحن أمام ولادة كيان يعترف أن المعركة ليست فقط في دهاليز السياسة، بل أيضًا في نشرات الأخبار، في زوايا المقالات، في الحلقات النقاشية، في اختيار العناوين، وفي الصوت الذي يُمنَح أو يُمنَع.
وقد بدا واضحًا من الحوارات والمداخلات أن هذه الشبكة تتأسس على رؤية جامعة، تستهدف خلق جبهة إعلامية ممتدة عبر العالم العربي، جبهة لا تطمح للتماهي مع الواقع، بل لمحاولة تغييره، والدفاع عن ضحايا النظم المستبدة.
في هذا الفضاء العربي المُشتعل، حيث السلطة تُخيف وتُغري، تأتي الشبكة لتُعلن أن الضمير المهني لا يُشترى، وأن للإعلاميين قضية، وللحقيقة مقاتلون. إننا أمام محاولة جادة لإحياء دور الصحافة كسلطة رابعة حقيقية، تراقب، وتفضح، وتُحرّض على التغيير، لا كأداة دعائية لتلميع أنظمة لا تُحسن إلا البطش.
واللافت أن الاجتماع لم يكن حوارًا نخبويًا بعيدًا عن الناس، بل كان مشبعًا بروح المشاركة والتكافؤ والاعتراف المتبادل، فلا أحد أوحد بالرأي، ولا أحد ينصب نفسه وصيًا على المهنة أو الحقيقة. الجميع كان هناك ليُصغي ويتعلّم ويتشارك، تحت مظلة واحدة: كيف نُعيد للإعلام العربي روحه التي سُرقت؟
تدشين هذه الشبكة قد يكون علامة فارقة في مسيرة الإعلام الحر بالعالم العربي. وقد يكون خطوة صغيرة على طريق طويل. لكنه، في كل الأحوال، بمثابة زيت في قنديل الحقيقة الذي لن ينطفئ.
ففي كل مرة نخط فيها مقالًا، أو نُعدّ تقريرًا، أو نفتح مايكروفونًا على صرخة مظلوم.. نكون جزءًا من هذه الشبكة، حتى لو لم نحضر اجتماعاتها.
لنبدأ الحكاية من جديد… بقلم لا يخاف، وصوت لا ينكسر، وأملٍ بأن تكون هذه الشبكة انطلاقة صادقة نحو إعلامٍ عربي أكثر حرية، وأكثر تأثيرًا، وأكثر إنصافًا للناس.