
قرأتُ مقالًا لسعادة السفير ياسر خضر، يدعو فيه قيادات المؤتمر الوطني إلى الترفع عن الصغائر، وكل ما هو دون معركة الكرامة ومهددات فناء الوطن. المقال في جوهره وظاهره يصب فعليًا في مصلحة الوطن إذا ما تم فهمه في سياقه.
عني، أرى كما يرى الكثير من الشباب، أن سياسات وممارسات “الوطني” في السلطة، والتي لا شك اشتملت على العديد من الإشراقات، تخللها أيضًا الكثير من القصور؛ “نقص القادرين على التمام”.
ومن هذا القصور ما يرقى إلى الجرائم الوطنية؛ فالحزب عمد إلى سحق القوى السياسية، وأضعف نفوذها من خلال الأساليب الملتوية، كالجمع بين رئاسة الحزب والولاية، ومصادرة الرأي، والاعتقالات التي لم يسلم منها حتى العرّاب المؤسس الراحل د. حسن الترابي، ومحمد علي الجزولي (فك الله أسره)، وأمين بناني، وغيرهم من قادة الرأي والقوى السياسية.
والأدهى والأمرّ من ذلك كله: التنكر لمخرجات الحوار الوطني، التي ناقشت كل قضايا السودان: كالسلام، والوحدة، والحريات الأساسية، والتنظيم السياسي، فضلًا عن الاقتصاد، والخروج بالمجتمع السوداني من الفقر إلى الرفاه، بجانب قضية الهوية السودانية، والعلاقات الخارجية، وقضايا الحكم، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني.
إن المؤتمر الوطني، منذ أن تخلّت الحركة الإسلامية عن العمل السياسي، وأنشأته ذراعًا لها يوم استولت على الحكم، كما يقول الراحل الطيب مصطفى:
“فإذا به ينقلب عليها، ويصبح سيدًا عليها، لدرجة أن يصبح أمينها العام في آخر عهدها مجرد نائب في برلمان يضم مئات الأعضاء، بدلًا من أن يكون ممسكًا بخطام الدولة، محددًا وجهتها ومرجعيتها وبوصلتها.”
يعلم القاصي والداني أن “القحاطة” و”بني علمان”، واليسار، والشيوعيين، وقوى الشر الإقليمية والدولية، ينتاشون الحركة الإسلامية والتيار الإسلامي بسِهامهم وإشاعاتهم. فهم لا يعادون المؤتمر الوطني بحد ذاته، وإنما ظلوا على الدوام يعادون خصمهم الفكري والتاريخي.
وبدلًا من أن ينأى الناس بأنفسهم عن “الوطني” وأخطائه في الحكم، ويدافعوا بالحق، فأنتم لستم مسؤولين عن أخطائه، ولا أجد أي مدعاة للفّ الحبل حول أعناقنا لنمنح الأعداء باعترافاتنا المجانية ودفاعنا عن الوطني وحكومته فرصة للنيل منا والتأليب علينا!
لذلك، يجب على هذا الجيل الجديد من الشباب، وعلى الرغم من انشغالهم بما هو أكبر من “حظوظ النفس”، بمهام كبيرة تهدد السودان أرضًا وبشرًا وهوية، واصطفافهم مع الجيش للدفاع عن الأرض والعِرض، رغم ذلك كله، عليهم أن يزيدوا جهدهم في التحصّن من أمراض السلطة التي سرت -ولا تزال- في شخوص بعض قيادات المؤتمر الوطني ولا أقول كل القيادات، فالله وحده العالم بالقلوب والنوايا. ولكن، يجب ألا يُسمح لهذه الأمراض بالتمدد، وأن يُسرعوا الخطى في فضّ الرابط بينهم وبينها، وألا يُجاملوا في ذلك؛ فسنن الله في الاستبدال ماضية، ونجدها حاضرة في سيرة سيدنا موسى عليه السلام مع قومه.
وفي ذلك أمران: إما جيل جديد معافى من هذه العلل والأمراض كجيل “يوشع بن نون”، أو الاستبدال والتيه. ولا يجب أن يُسمح بتمجيد الأشخاص على حساب الولاءات الكبرى، وهل أُنشئت الحركة إلا لأجل ذلك؟
إن بعض قادة الوطني، الذين رفلوا في النعيم، وتمرّغوا في الجاه والسلطان، سيصعب عليهم الفطام، على الرغم من ضياع صولجان السلطة بما فعلت أيديهم، فهم يبحثون عن “الفردوس المفقود”. والبعض الآخر عاد إلى الوراء عشرات السنين ليصنع ما كانت تصنعه الأحزاب الطائفية، ويعيبونه عليها، فهل هذا الأمر ينم عن خلل في اللوائح والأنظمة أم خللًا في الأخلاق والقيم ؟ .. وهل نعود إلى عصر “اتخاذ القرارات الحزبية في صينية الغداء”؟.
أخوتي الجيل الجديد، يا إخوة الشهداء، يا من تحملون البندقية وشرف الدفاع عن الوطن، وتحرير قراره قبل أرضه وسمائه، لا يجب أن تحملوا أوزار “الوطني” وحكومته، رغم أنكم لستم جزءًا منها. ولا تسمحوا لأخطاء الماضي أن تشوّهكم أو تشوش عليكم ، بل لنتقدّم جميعًا إلى الأمام، ونسمو عن الصغائر، وحظوظ النفس، وأمراضها.
الحديث ذو شجون خاصَّة أنَّ هذه العلَّة مستفحلةً في تنظيماتنا السِّياسيَّة كافَّةً. . . ولنا عودة إن شاء اللَّه.