مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: ترامب يحلب الخليج تريليونات والعرب يرقصون طرباً على أنقاض الكرامة

كأننا لم نتعلم شيئًا من دروس التاريخ، ولا من تجارب الخضوع المهين التي أورثتنا الضعف والانكسار، حين نُستقبل على سجادة الذل المزركشة بأموالنا، ونُصفّق طائعين لجلادنا وهو يحلب خزائننا بابتسامة وقحة ويقايض كرامتنا بتغريدة.

جاء ترامب، لا كزعيم سياسي يحمل مشاريع للسلام أو التنمية، بل كتاجر جشع، غارق في صفقات لا أخلاقية، هدفه الأول والأخير: المال. والمال فقط.

لا، لم تكن غزة على جدول الأعمال، ولا فلسطين، ولا دماء الأطفال تحت الركام .. لم يلتفت إلى مأساة الشعوب ولا الكوارث الإنسانية، ولم يكلّف نفسه حتى بحمل قناع الدبلوماسية.

جولة ترامب في دول الحليب العربي لم تكن إلا حملة “جباية عظمى” في موسم الحلب الأكبر، أشبه بقافلة سطو صامت تمر على القصور المذهبة وتجمع الجزية بتواقيع خنوع لا تعارض ولا نقاش فيها.

أي وقاحة هذه حين يخرج الرجل مفتخرًا على الملأ أنه جمع تريليونات الدولارات من جيوبنا؟ عشرة تريليونات، ثم تريليون وأربعمائة من الإمارات، وثلاثة تريليونات من السعودية، ومثلها من الكويت وعمان، وتريليون و200 مليار من قطر، ونصف تريليون من هنا وآخر من هناك، كأنما نحن لا دول ذات سيادة بل صناديق مفتوحة تنتظر من يشقها بحذائه.

والأدهى، أن كل هذا يحدث على مرأى ومسمع من شعوب غارقة في الأزمات، من اليمن إلى ليبيا، ومن غزة إلى السودان، بينما حكامهم يتسابقون لإرضاء تاجر العقارات الأميركي.

هذا الرجل لم يحتج إلى استخدام القوة، لم يلوّح بسيف أو حاملة طائرات، كل ما فعله أنه قدّم نفسه كمنقذ من غيبوبة أميركا السياسية، فتقاطروا عليه بالأموال، بالأراضي، بالمواقف، كأنما ينتظرون منه الخلاص أو صكّ الرضا.

السؤال الجوهري هنا: ماذا قدم ترامب للعرب؟ أو بالأحرى، ماذا قدّم للعرب سوى الإهانة الجماعية؟ استثمارات؟ لا شيء.

دعم للقضية الفلسطينية؟ بالعكس، زاد الاحتلال توحشًا، وارتفعت وتيرة القتل اليومي في غزة أثناء زيارته، ولم يتوقف نزف الدم الفلسطيني للحظة .. تهدئة في اليمن أو ليبيا أو السودان؟ لا، بل مزيد من الوقود صُب على النيران.

في هذه الجولة، كانت الخدعة واضحة، لكنها مرّت بسلام لأن من يُخدَع لم يعُد يعبأ أن يكون ضحية، بل يشارك في خداع نفسه.

لقد وصلت الشركات الأميركية الكبرى قبل ترامب، وأُبرمت العقود قبل أن تلمس قدمه أرض الخليج، بل كانت شركاته العائلية جاهزة لتوقيع تعاقدات مهولة باسم “الاستثمار” وهي في حقيقتها تقنينٌ للنهب.

الجديد الذي لا يجب أن يغيب: أن أبناؤه، وأبناء شركائه، وأصدقاؤه المقربون، باتوا فجأة أصحاب شركات كبرى، تنال العقود الضخمة من أموال العرب، في أكبر عملية تضارب مصالح عرفتها السياسة الأميركية، تُدار بمنتهى العلنية.

أما إيران، فقد تحوّلت بين ليلة وضحاها من “شيطان” إلى “شريك اقتصادي واعد”، فقط لأن في الأمر صفقة جديدة، نصف تريليون هنا، وخطوة هناك بإرسال اليورانيوم المخصب إلى الخارج، ومعه تُرفع العقوبات وتُفتح الأبواب .. لا لأن إيران تغيرت، بل لأن ترامب أراد تغيير قواعد اللعبة لمزيد من الأرباح.

ووسط كل ذلك، يظل العرب المتفرجون الممولون. لم يطلب منهم أحد شيئًا، هم من قدّموا، وبسخاء غير مبرر.

لم تُفرض عليهم جزية، بل تهافتوا لدفعها، كلٌ يريد أن يظهر الأكثر كرمًا أمام ترامب، والأكثر ولاءً، وكأن نيل الرضا الأميركي بات مرادفًا للبقاء في السلطة، أو على الأقل، ضمانًا لعدم السقوط.

في هذه المهزلة، لم يكن ترامب هو المجرم الوحيد، بل كان شريكًا في جريمة جماعية، بطلها الحقيقي هو الانبطاح العربي، هذا الذي لا يزال يؤمن أن السيادة يمكن شراؤها، وأن الحماية تأتي من وراء المحيط، وأن الأوطان تُدار بمفاتيح أميركية لا بالكرامة والوعي والإرادة الحرة.

كل من تابع هذه الزيارة شعر أن ترامب لم يأتِ كضيف، بل كمالك أرض جاء ليجبي ما يراه حقًا له، دون أن يواجه لا مساءلة ولا حتى خجل.

خرج من الخليج كما دخل: ثريًّا بأموالنا، رافعًا رأسه، ساخرًا من الجميع. أما الشعوب، فقد تركها كما وجدها: منسية، مسحوقة، تائهة في أزمات لا تنتهي.

فإذا كنا لا نجد الجرأة لنقول له: لا، فلا نلومه إن عاد في المرة القادمة ليطلب أكثر. لأن مَن لا يحترم نفسه، لا ينتظر احترامًا من أحد.

وها نحن الآن نجني ثمار هذا الخضوع .. لا سلام، لا استقرار، لا نهضة، فقط تريليونات خرجت من خزائن العرب لتغذية مشاريع لا تخدم إلا أميركا وأصدقاء ترامب.

ولن يكون غريبًا إن عدنا لنراه في ولاية جديدة، يعود بحقيبته الفارغة ليملأها من جديد .. لكن حينها، سيكون الحلب بلا مقابل، لأننا أفرغنا ما تبقّى من ماء الوجه، ومن كرامة الأرض، ومن حلم النهضة.

نهاية الجولة ليست نهاية القصة .. القصة بدأت الآن، والأيام القادمة ستكون أكثر قسوة، لأن من يبيع نفسه مرة، لا يعود يملكه حق الرفض بعدها.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى