مقالات وآراء

ناجي عبد الرحيم يكتب : استراتيجية المناعة الاقتصادية المصرية في الحرب العالمية الثالثة

من المختبرات التكنوبيلوجية إلى الطاقة والنفط والقمح ، فالعقارات وسلاسل الإمداد ، ثم أسواق المال والعملات العالمية


عندما صار الفيروس جنرالاً ، والميناء خندقاً، وأسواق المال ميداناً، والدولار مدفعاً ، والعملة الرقمية بندقية، أدركت البشرية أنها لم تكن تنتظر قنبلة نووية جديدة لتكتشف أن الحروب قد تغيرت ، كفى أن يتوقف مصنعاً في ووهان، أو تتأخر شحنة في مضيق، أو تُجمد حوالة مالية في بنك مركزي، لتبدأ الحرب ، لا حاجة لصراخ القنابل، فإن صمت الأعطال سلاح، وتوتر الأسواق سلاح، وارتباك سلاسل الـإمداد بين توقف وتشغيل ؛ فجنرال الحرب الجديد لا يرتدي بزّة، بل يظهر في هيئة فيروس أغلق العالم، أو رقم تعرفة جمركية أغرق الدبلوماسية الدولية. هي الحرب، التي لا يُطلق فيها الرصاص، بل تُضغط الأزرار، وتُجمَّد الصفقات، وتُحاصَر العملات، وتتصارع التصريحات والقرارات.

هكذا بدأت الحرب العالمية الثالثة — بلا طلقات، وبلا إعلانات رسمية؛ لكنها تصاعدت، وضربت حيث لا يُرفع علم، بل يُسحب بساط السيادة الاقتصادية من تحت أقدام الدول.

استهلال… جذور الحرب في باطن التاريخ الاقتصادي:

لا يخفى على مبصر بالتاريخ ما قبل 1914، حيث كان العالم يرتكز على قاعدة الذهب، وتحكمه موانئ أوروبا، فكانت سيطرة بريطانيا وفرنسا وألمانيا على 80٪ من التجارة العالمية، ومركزة الطاقة في الفحم بنسبة 90٪؛ لكن هذه القوة كانت قائمة على مركزية هشّة، وانكشاف هيكلي خفي، فكان النظام صلبًا في مظهره وظاهره، هشا في مضمونه وجوهره، قوامه تمركز الموارد، واختناق سلاسل الــإمداد في ثلاث موانئ.

استدلال .. من الذهب إلى الدم: 

لقد فجرت الحرب العالمية الأولى النظام المالي، فسقطت قاعدة الذهب، وتعطلت المصارف، وخُنقت التجارة، ليتحوّل الاقتصاد إلى ترسانة حرب، وتتحوّل الدول إلى شركات تعبئة، حيث الجوع سبق الرصاص، والعملات تآكلت في الداخل، والمؤسسات انهارت بلا قصف، فكان الكساد العظيم .

بين الحربين… لم يعُد النظام إلى سابق عهده:

إن انهيار بورصة نيويورك عام 1929 قد فاقم الانهيار، وفتح الباب للكساد العظيم مع فقدان الثقة، وارتفاع البطالة، وازدياد معدلات الجريمة ، فتراجعت التجارة العالمية بنسبة 70٪، واستشرت النعرات القومية، وازداد الانغلاق، فكانت الأرض مهيّأة لحرب ثانية أشد فتكًا، هي الحرب الثانية.

الحرب العالمية الثانية …النفط جبهة والقمح قنبلة مؤجلة:

لقد كانت المعركة على الموارد لا على الأرض وحدها؛ فالنفط في باكو أذربيجان، والقمح في أوكرانيا، والموانئ الأطلسية تحوّلت إلى أهداف استراتيجية، ومن يملك الوقود يملك الحركة، ومن يقطع الإمداد يكسر إرادة الخصم ، فكان النفط وسلاسل الإمداد قبل المال والعملات …وانتهت الحرب بقيادة نقدية للولايات المتحده الأمريكية ؛ لتكتب قواعد الاقتصاد الجديد رماداً ودولاراً.

من الرماد إلى الدولار.. نظام بريتون وودز، وربط العالم بالدولار:

لقد تحوّلت المؤسسات الدولية إلى أذرع سياسية ، فأمريكا لم تحتكر الانتصار العسكري فقط، بل فرضت هيمنتها النقدية المبنية على الثقة – لا على غطاء حقيقي- والتي تنكشف هشاشتها في لحظة الصدمة ، سياسية كانت او اقتصادية او اجتماعية

ليستيقظ التنين الصيني .. بعولمة تنسج خيوط التبعية بصمت استراتيجي :

إن الصين قد صعدت كأكبر مصنع للعالم ، حيث فتحت الأسواق مع الانهيارات القطبية ، وبدأت تحكم سيطرتها على سلاسل الإنتاج، وتحوّلت إلى العمود الفقري للاقتصاد العالمي؛ فأصبحت الموانئ الآسيوية شرايين التجارة، والاعتماد العالمي على المنتجات الصينية وصل حدّ الخطورة، حتى عمّ الخطر العالم كله.

من مصنع ووهان انطلق الجنرال “كورونا”.. لحظة الانكشاف الاستراتيجي باكتشاف:

في 2019 جاء الفيروس ليكشف المستور، فاختفت المنتجات من الأسواق، وتعطّلت المصانع، وانهارت أسعار النفط ، فلم يكن الأمر وباءاً فقط، بل إعلانًا صامتًا عن بداية الحرب؛ حيث تزعزعت سلاسل الإمداد، وتراجعت التجارة المحلية والإقليمية والعالمية ، وارتبكت النماذج الاقتصادية، بالإعلان عن حرب المختبرات التكنوبيولوجية، واستفاقت الدول على سؤال لم تتجرأ على طرحه من قبل: هل نملك إرادتنا حقًا ؟ هل نملك غذاءنا ودواءنا وكساءنا وسلاحنا ؟

ومع المواجهة الرابعة ، ظهر إعادة تعريف الاقتصاد كسلاح ..أصبح النفط والغاز سلاحين، وسلاسل الإمداد والقمح قيوداً  :

في عام 2022 انفجرت الحرب الروسية الأوكرانية؛ وارتفعت أسعار الغذاء والطاقة، وبدأت أوروبا في إعادة تشكيل اعتمادها، فدخل العالم مرحلة التسليح الكامل لكل سلعة: القمح، النفط والغاز، الأسمدة والكيماويات، حتى النقل والشحن، وبدأت القوى الكبرى في تأسيس أنظمة موازية للتسوية، والدفع، والبيانات، والنفوذ.


استدراك .. الحرب بإضافة أسلحة استراتيجية في مقدمتها إغلاق منظمات التمويل والإقراض والتبعية، ثم  سلاح التعرفة الجمركية: 

ففي مطلع 2025، أطلقت أمريكا ضربتها الأولى في الحرب الجديدة، باستبدال الحضور والإنزال العسكري والغزو والاحتلال، بالإغلاق للمنظمات الدولية،  والغياب والاختفاء والانسحاب من العقود والصفقات ، ثم التوقف عن التمويل والإقراض، فرفعت الرسوم، مع تعطيل التوريدات، ومنعت التصدير التقني، لتفجر الأسواق في مارس؛ بقفزات في أسعار المعادن، وما تبعها من اضطرابات في أسواق المال والعملات، فتعطلت خطوط الإنتاج، لتسطر المرحلة الثانية من الحرب فعليًا — بلا جندي واحد، لتصرخ دول العالم ، وتنهار الدول النامية والتابعة.

الشرق الأوسط في المواجهة …ودول دون مناعة اقتصادية :

مصر بما كانت تملكه من ثروات و موقع جيواقتصادي متميز ، حيث قناة السويس التي تنقل ما يزيد عن 12٪ من سلاسل الإمداد التجارية البحرية العالمية، والمجال المصري يربط بين قارات ثلاث، ويشرف على بوابتين استراتيجيتين، ويتوسط خمسة مسارات نقل إقليمي وعالمي، لكن الحرب العالمية الثالثة لا تعترف بالجغرافيا وحدها، ففي عالم تُخاض فيه المعارك بسلاسل الإمداد، وسلاح العملات، وأمن الغذاء، تصبح السيادة الحقيقية كامنة لا في الخريطة، بل في قدرة الدولة على إنتاج ما تستهلك، وتأمين ما تحتاج، وفرض ما تقرر، لذا ظهرت هشاشة البنية السيادية لمصر بوضوح، في كلمات :

• أكثر من 60٪ من غذاء المصريين مستورد

• نحو 80٪ من الأدوية واللقاحات تأتي من الخارج

• الجنيه المصري فقد ما يزيد عن 70٪ من قيمته في ثلاث سنوات

• الدين العام تجاوز 80٪ من الناتج المحلي، والدين الخارجي قفز فوق 165 مليار دولار

• التضخم اقترب من حاجز 40٪ في بعض الأشهر

• العجز في الميزان التجاري يتجاوز 45 مليار دولار سنويًا

إنه نتيجة مسار داخلي بدأ بانقلاب عسكري في 2013، وامتد إلى انقلاب اقتصادي على مفهوم الدولة المنتجة ، لتقفداخل الصراع، مثقلة بحكم عسكري ، رفض امتلاكها لغذائها، ودوائها، وكسائها وسلاحها، ووأد ثورتها ، وبدد ثروتها ، وانهال على اقتصادها، بتعمده النيل من الهيكلية الإنتاجية والزراعية، ثم انهارت القدرة على التصدير ، فقام بتجريف الدولة ، واغتيل رئيساً واعتقلت حكومة وبرلمان الشعب “مجلس الشعب الثورة” ، وعلماء ومفكرين ، وأساتذة جامعات ورجال أعمال وصحافيين ومحامين وحقوقيين وصناع اقتصاد، وهجر عقول وكفاءات وخبرات في كافة مجالات التنمية، ثم تعمد تهميش المؤسسات الرسمية ، وتسييد التبعية السياسية والاقتصادية، حيث تعاظُم الديون والقروض والتضخم ، وسقوط الجدارة الائتمانية ، وبالتالي خلال عقد ونيف من الحكم العسكري، تعرّضت مصر  إلى عملية تفريغ ممنهجة:

  • • العقل المدني المنتج أقصي لصالح فئة من المنظومة العسكرية مع أصحاب المصالح المستفيدين من الفساد يديرون التعليم والصحة والزراعة والصناعة بقانون الطوارئ.
  • • القطاع الزراعي تراجع رغم الموارد، وتحولت مصر من مصدّر للغذاء إلى مستورد أساسي للقمح والذرة والسكر
  • • القطاع الصناعي ، حيث تراجعت الصناعات المحلية لصالح المقاولات والإنشاءات، وتحولت الدولة إلى مقاول لا منتِج
  • • سوق الدواء لم تُبنَ عليه سياسة تصنيع، بل اكتُفي باستيراد المادة الخام والتعبئة
  • • القرار النقدي خرج من تحت سيادة البنك المركزي، ودخل منطقة الإملاءات المشروطة عبر برامج الاقتراض
  • • الإنفاق العام تركز في مشروعات كثيفة الكلفة، محدودة العائد السيادي، مما أنهك المالية العامة دون تعزيز القدرة الذاتية

لتواجه مصر الاسيرة الحرب العالمية الثالثة بمنظومة اقتصادية هي الأضعف داخليًا وخارجيًا فالقرار النقدي لم يعد وطنيًا؛ ولتتقدم حرب لا تُخاض بالجنود بل بالمخزون الغذائي والقدرة الصناعية والقرار النقدي، جعلت مصر تبدو دولة دون غطاء اقتصادي ولا سياسي، فلا مخزون غذائي استراتيجي كافٍ، ولا قاعدة صناعية سيادية، ولا بديل حقيقي لعملتها المعتمدة على التدفقات الخارجية، حتى الجيش، المؤسسة التي بُنيت لحماية السيادة، باتت أدواته وتكنولوجياته مرهونة بدول المنشأ ومراكز الصيانة الخارجية، وتقادم تكنولوجي، يحول دون تكافئه مع جيوش الحرب العالمية الثالثة في مناطق الصراع والاشتباك .

ومع ذلك، فإن اللحظة لم تُغلق ، فالحرب دائرة ، ومعها يدور نداء لإعادة التأسيس للدولة القوية علمياً وعملياً ، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وسيادياً ، لبناء سيادة غذائية تبدأ من الأرض والماء والعقل الزراعي والصناعي والتجاري ، وإقامة استقلال دوائي لا يستند على التوريد، بل على البحث والإنتاج، ثم تحقيق التحول الصناعي الذي يعيد للدولة عمودها الاقتصادي الفقري، وتحرير العقول  من المعتقلات  ، وتقديم الكفاءات لادارة البلاد ثم تحرير الاقتصاد ، وعودة العسكر خلف البندقية والمدفع ، لحماية الدولة وقيادتها المدنية وإدارتها الإصلاحية لا بالشعارات، بل بتحفيز الإنتاج، وتمكين المعرفة، وإصلاح القرار من الداخل.

ففي زمن الحرب، لا مكان لمن لا يملك غذاءه ودواءه وسلاحه، ومن لا يملك مفاتيح قرار النقد والغذاء والتقنية… فلن يكون لاعبًا في زمن إعادة التشكيل، ذلك لأن ما نعيشه ليس أزمة عابرة، بل لحظة مفصلية في هندسة الاقتصاد العالمي، فالأيام الـ 90 القادمة هي اختبار وجود ، تحدد من يملك آليات المواجهة، ومن سيتحول إلى ساحة اختبار للقرارات الدولية.

استشراف… 

فيما العالم يلملم رماد صدمة 2025، تدخل البشرية مرحلة الـ90 يوم القادمة وكأنها تعبر فوق جسر هشّ مشيّد من تضخم، وتعرفة جمركية، وانسحابات متعمدة من نظام عالمي يتفكك بهدوء، ويُعاد تركيبه بعنف اقتصادي؛ فما أشعلته الولايات المتحدة بضرب المنظمات التمويلية والإقراضية في يناير، ثم انسحابها من صفقات دولية كبرى في فبراير، وما أتبعه من تفجير شبكات التوريد برفع الرسوم الجمركية في مارس، ومن تأجيلها لنزال الـ 90 يوما القادمة ، كلّه لم يكن استثناءًا… بل افتتاحية لمشهد عالمي جديد

ختاماً …

ومن 90 يوماً قادمة إلى ال900 يوم المقبلة ، لن تكون الحرب امتدادًا للمخاطر والأزمات الحالية، بل مسرحًا مفتوحًا لمعارك غير متزامنة في أربع جبهات:

الجبهة الأولى : الأمن الغذائي الذي يتحوّل إلى ورقة سيادة

الجبهة الثانية : أسواق المال والعملات التي تتراجع لصالح أدوات تسوية بديلة لا تمر عبر نيويورك

الجبهة الثالثة : سلاسل الإمداد التي تتفكك إلى دوائر مغلقة تُدار جيوسياسيًا لا تجاريًا

الجبهة الرابعة : تحالفات لم تعُد تُبنى على القيم، بل على تبادل الأدوات والمصالح المتجددة ؛ فمن لا يملك خريطة إنتاجه، لن يُرسم له موقع في مائدة التسويات، ومن لا يُطوّر أدواته النقدية والتقنية، سيُدار عن بعد.

وفي سطور… الحرب الإقتصادية العالمية الثالثة 

زلزلت اقتصاديات العواصم العالمية ، دون أن تقصف أراضيها، وارتفعت مؤشرات الفائدة وانكمشت السلع ، دون اقتحام الجيوش، وتم فقدان السيطرة والتحكم في الموانيء والمعابر والمنافذ والممرات بخوارزميات ، دون احتلالها بإنزال أو زحف عسكري .

في كلمات … ومن  لا يقاوم سياسياً واقتصادياً… لايقوى على كتابة التاريخ … من لا يبني مشروعه من الداخل… سيُعاد تشكيله من الخارج … هي حرب سياده وقيادة …وللشعوب قرار !

رؤية الدكتور/ ناجي عبد الرحيم

خبير مشروعات استراتيجية – مرشح وزير سابق ونائب رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى