شباك نور

الدكتور أيمن نور يكتب: ورقة من مذكراتي .. القاضي الذي فعل ما لم يفعله أبي

في خريف عامي الجامعي الثاني، كنت مرشحا كرئيسًا لاتحاد طلاب كلية الحقوق بجامعة المنصورة (كما كنت في عامي الجامعي الأول).

لكن نشاطي، الذي لم يكن يروق لجهاز أمن الدولة، دفعهم إلى إصدار تعليمات بشطبي من قوائم الترشيح، فقط لأني كنت أؤمن أن الجامعة وطنٌ صغير، لا يجب أن يُدار بقبضةٍ أمنية.

عدتُ إلى أبي، الأستاذ عبد العزيز نور، المحامي الكبير، أستنجد به كما يستنجد الغريق بلوح العدالة. طلبت منه أن نرفع دعوى عاجلة أمام القضاء الإداري للطعن على القرار المجحف. سألني والدي سؤالاً لم أنسَه يومًا: “هل تريد أن تُعيَّن معيدًا في الجامعة كما أتمنى أنا وأمك؟ أم أنك اخترت طريقًا آخر؟”. قلت له بكل يقين: “أريد أن أُعيَّن لأنني أستحق، لا لأنني أُهادن”.

أجابني بنبرة الأب الحكيم: “إذا قاضيت الجامعة، فلن تُعيَّن. وإذا اتهمت الأمن علنًا، فلن تدخل سلك القضاء ولا النيابة العامة”. لكنني لم أستطع أن أُساوم على حقي. فانتظرت خلو المكتب، وجلست إلى مكتبه، فتحت كتب القانون الإداري، وحررت أول صحيفة دعوى في حياتي، بيدي وحدي.

حملت الصحيفة إلى المحكمة دون توقيع محامٍ معتمد. وعندما عُرضت على القاضي، طلب مقابلتي. دخلت على رجل لم أكن أعرفه، لكنني رأيت في عينيه بريقًا يشبه نور العدالة. اسمه كان المستشار أحمد الشاذلي. نظر في الصحيفة، وصحّح بعض العبارات، ثم طلب من محامٍ متواجد أن يُوقع عليها.

وبعد ساعات، صدر حكمه: قبول الدعوى، وعودة اسمي لقوائم المرشحين، وإلزام الجامعة بتنفيذ الحكم بمسودته. يومها لم أُعد فقط إلى قائمة، بل أُعيد إليّ إيماني أن في هذا الوطن قضاة لا يخضعون إلا لضمائرهم.

لم يكن هذا أول حكم عادل في سيرة هذا القاضي الشريف، ولا الأخير. ففي وقتٍ كانت فيه الأحكام تُكتب في مكاتب السياسة، لا على منصات القضاء، وفي أيامٍ أصبح القضاة يُختبرون بولائهم لا بضمائرهم، عرفتُ رجلاً من معدنٍ آخر. رجلًا لا يُجامل، ولا يُهادن، ولا يبيع مواقفه في بورصة السلطة.

بعد سنوات، وأنا خلف القضبان، تلقيت حكمًا جديدًا منه، لا في قضية كنت فيها خصمًا، بل في معركة كانت فيها حريتي على المحك. حكم لي بحقي في الصلاة والكتابة وأنا معتقل، ثم أعاد لي جواز سفري في المنفى. لم يسأله أحد عن رأيه السياسي، لأنه لم يكن يُصدر الأحكام للهوى، بل للحق.

كان المستشار أحمد الشاذلي مدرسة كاملة في العدالة المستنيرة، قاضيًا يُنصف المختلف قبل المتفق، ويُعيد للمظلومين أملهم في سلطة لا تأتمر إلا بالقانون. وقف في وجه السلطة عندما كانت تبيع الأرض، وقال كلمته في تيران وصنافير: “سيادة مصر عليهما مقطوع بها، ودخولهما ضمن أراضيها ما انفك راجحًا رجحانًا يسمو لليقين”.

لم تكن تلك حيثيات قانونية وحسب، بل كانت مرافعة وطنية خالدة، أضاءت شعلة في ضمير أمة، ورددت معها الجماهير هتافها الخالد: “عيش، حرية، الجزر دي مصرية”.

لم تكن هذه سابقة وحيدة في سجل هذا الرجل، بل سيرة ممتدة من المواقف الخالدة: رفض إسقاط الجنسية عن الرئيس محمد مرسي،
وعني وعن ايمن عزام

ورفض منع جواز السفر عن وائل غنيم، ورفض منعي أنا أيضًا، من جواز سفري لأن كلًّا منّا كان مواطنًا،
. وكان يرى القانون مرآةً للعدالة، لا سوطًا بيد السلطة.

أنصف البهائيين وحقهم في الأوراق الثبوتية، وأعاد حق الزواج الثاني للمسيحيين، ومنع حجب التمويل عن الجمعيات الأهلية، وأعطى القرصاية لأهلها، وأعاد مصانع طنطا للكتان وعمر أفندي لعمالها. كان يُصدر الأحكام وكأنه يُرمم جزءًا من هذا الوطن المتصدع.

في ذروة خصخصة التأمين الصحي، وقف القاضي الشاذلي ليحمي حق الفقراء في العلاج، وليقول لا لمن أرادوا بيع الهواء والماء والدواء.

حين واجه وزارة الداخلية، لم يكتفِ بالحكم، بل كتب: “الأصل في الإنسان البراءة، وعلى الوزارة المواءمة بين الأمن العام وحرية الأفراد واحترام الأحكام القضائية”. أي بيان سياسيٍّ هذا الذي يصدر من على منصة القضاء؟ لكنه لم يكن يسعى لإرضاء أحد، بل لإرضاء ضميره وحده.

هو القاضي الذي لم تحركه الأضواء، بل حرّكه الإيمان بأن في العدل خلاص الأمم، وفي إنصاف الضعفاء قوة الأنظمة. وحين يكتب حيثياته، تتسرب منها لغة شعرية مبلّلة بالحكمة والحق.

المستشار أحمد الشاذلي لم يفعل فقط ما لم يفعله أبي، بل فعل ما لم تفعله دولة. كان ضميرًا نابضًا على مقعد العدالة، ومعلمًا بصمت، وصديقًا للمظلومين من بعيد.

اليوم، وأنا أكتب هذه الورقة، لا أرثيه بقدر ما أُحييه. فالرجل قد يرحل بجسده، لكن أحكامه تبقى تُدرّس، وذكراه تظل في قلوبنا مشتعلة، كشمعة في ليل الوطن الطويل.

لروحك النقية، أيها القاضي العظيم، الرحمة والسلام. ولعدلك، كل التقدير. ولذكراك، كل الوفاء

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى