
لا شيء يعلو فوق صوت الله، ولا سلطان يسبق أمره، فإن تكلمت الأرض أو زلزلت، فذاك بأمره وحده، وبتقديره لا غير، الزلازل والأرض والسماء والريح، كلها جند من جنود الله، لا تتحرك إلا بإذنه، ولا تنطق إلا بما شاء لها أن تقول.
وكيف لا، والله عز وجل أنذر البشرية من قبل فقال في كتابه الكريم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ” [الحج: 1] .. إنها ليست مجرد آية تُتلى، بل نداء إلهي يجلجل القلوب ويطرق أبواب الغافلين.
فحين يعلو صوت الأرض وتنتفض، ولا شيء يبقى ساكنًا .. حين تتكلم الطبيعة بصيغة الغضب .. في زمن باتت فيه الآذان صمّاء عن الحق، والقلوب قاحلة من الرحمة، والأفعال موصومة بالجحود، جاء الزلزال، لا كحدث جيولوجي عابر، بل كجند من جنود الله، لا يخطئ موعده، ولا يطرق الأبواب قبل أن يدخل.
الزلازل التي هزّت الأرض تحت أقدامنا لم تأت من فراغ .. لسنا أمام لوح تكتوني يتمدد هنا أو ينضغط هناك فحسب، بل أمام رسالة كونية، آية جليلة تمشي على الأرض لكنها من السماء.
ليس الزلزال مأساة صامتة كما يصوّره البعض، بل هو صرخة، تحذير، صيحة تخرق سُبات الضمائر، وتستنهض الغافلين من غيبوبة التبلد.
دعونا لا نلوذ بتفسيرات علمية جافة تُخدّر العقول وتُسكّت الضمائر .. نعم، هناك أسباب جيولوجية، لكن متى كانت الأسباب المادية وحدها كافية لشرح ما يهز القلوب قبل أن يهز البنيان؟
إن الله لم يخلق الكون عبثًا، ولم يسلّط الريح والزلزال والطوفان ليغنوا بها في نشرات الأخبار .. كل شيء بحساب، وكل زلزلة بحكمة، وكل اهتزاز للأرض هو تنبيه من السماء.
من يتأمل توقيت هذه الزلازل وانتشارها في بلاد العرب والمسلمين على وجه التحديد، لا يملك إلا أن يتساءل: لماذا الآن؟ ولماذا هنا؟ ألسنا من ابتعدنا عن جوهر الرحمة، واستبدلناها بالاستعلاء والتكالب؟
ألسنا من جعلنا مظالم العباد تتراكم فوق الأرض حتى ضاقت بها، فصرخت بنا؟ هذه الأرض التي نمشي عليها، نظن أنها جماد، وهي في الحقيقة تئنّ من ظلمنا وتغافلنا، وتبكي من قسوة قلوبنا.
الزلزال ليس خصيمًا أعمى، بل قاضٍ مأمور .. يضرب حيث يشتد العناد، ويهز حيث خفتت أصوات الاستغفار، ويُسقط من يظن نفسه قد بلغ من القوة مبلغًا.
وهل أقسى من أن ترى البنيان يتهاوى في لحظة، وتعلم أنك عاجز أمام ارتعاشة حجر؟ في الزلزال تنكشف هشاشة الإنسان مهما علا شأنه، وتسقط الأقنعة عن وجوه ظنّت أنها آمنت من مكر الله.
نعم، الزلزال جند من جنود الله، لا يتكلم، لكنه يُفهم .. لا يرحم، لكنه عادل .. لا يتحرك عبثًا، لكنه مأمور .. ليس من الحكمة أن نقف أمامه مكتوفي الأيدي نردد الأرقام والإحصاءات، ثم نعود إلى غفلتنا وكأن شيئًا لم يكن.
بل الحكمة أن نتوقف، نتفكر، ونراجع علاقتنا بخالق الأرض ومن عليها. فإن كان الزلزال قد نطق، فلنصمت نحن قليلًا، ولنفهم.
لا أكتب هذا المقال لأزرع الخوف، بل لأوقظ ما تبقى من بوصلة الضمير، إننا بحاجة إلى أن نعيد ترتيب أولوياتنا، أن نصالح الأرض قبل أن تشتعل تحتنا، أن نُعيد الهيبة للسماء قبل أن تُعلن غضبها مرارًا.
نحن بحاجة إلى أن نتذكر أن هذا الكون لا يسير بفوضى، بل بقصد، وأن الله ما خلق شيئًا عبثًا، ولا يُرسل زلزالًا بلا مغزى.
الأرض لا تنتفض إلا إذا سُئمت السكون .. الزلزال لا يأتي إلا حين يغدو السكون خيانة، وإن كانت هذه الزلازل قد هزّت الأرض، فإنها في حقيقتها تهزّنا نحن، تهزّ أرواحنا المتكلسة، تهزّ أنظمتنا التي تناست الحق، تهزّ أعمدة المجتمعات التي استبدلت القيم بالمصالح.
فيا من ترون في الزلازل مجرد ظواهر طبيعية، راجعوا أنفسكم، ويا من تقرؤون هذه الكلمات، تذكّروا أن أعظم الكوارث ليست تلك التي تهز الأرض، بل التي تُميت القلب.
وإذا كانت الزلازل تُدمّر المدن، فإن الغفلة تُدمّر الأجيال. وإن لم نتعظ من زلزال اليوم، فماذا ننتظر؟ أن تُبلع الأرض بما عليها؟
إن هذا الصوت الهادر تحت أقدامنا ليس للترهيب فحسب، بل للرحمة أيضًا .. من رحمته أن يوقظنا قبل أن نسقط في هاوية الغفلة.
من رحمته أن يُعطي إشارات، أن يُرسل جنوده لتعيد ترتيب المشهد، وتفتح باب التوبة. فهل نسمع؟ هل نفهم؟ أم نظل نقلب صفحات الجيولوجيا بينما الأرض تُسطر بيانها الأخير؟
الزلازل ليست مجرد اهتزازات تحت سطح الأرض، إنها ارتجاجات في ضمير الأمة .. ومن يظن أن الله غافل عمّا يعمل الظالمون، فقد أساء فهم هذا الكون.
فلنُصغِ جيدًا .. الأرض تهمس، الأرض تصرخ، الأرض تنطق .. فهل من واعٍ؟
فكما بدأت الأرض صراخها بأمر الله، ستنهي كل شيء بإذنه .. لا تتوهّموا أن ما يحدث حولكم عبث، ولا تظنوا أن صمت السماء دليل غياب، الله لا يغفل، وجنده لا يتأخرون.
إن الزلازل ليست إلا تذكيرًا بحقيقة كبرى نكاد نغفلها أن للكون ربًا، وللأرض مالكًا، وللحظة الحساب موعدًا لا يؤخر .. فارتقِ ببصيرتك، وافهم الرسالة قبل أن تُكتب نهايتك، فالأرض لا تمهل، ونداء السماء لا يُعاد مرتين.