عيد بلا فرحة: غزة تحتفل بالرماد وتنتصر بالصلاة

أشعلت تكبيرات العيد سماء غزة، لكن الأرض خالية من الزينة، والبيوت بلا أضاحٍ، والقلوب معلّقة بين أمل مستحيل وفرح مؤجّل.
في زمنٍ كان فيه العيد موعدًا للفرحة والانفراج، تحوّل في غزة إلى مشهدٍ كابوسي، صامت، مؤلم، يطغى عليه سواد الحصار وقسوة الفقد.
الشوارع التي كانت تفيض بالحياة صارت خاوية كأنها تنتظر نعيًا جماعيًا لمظاهر العيد، والأسواق التي اعتادت الزحام باتت تئنّ من الركود، فيما تقف الأمهات عاجزات أمام عيون أطفال لا تعرف الفرق بين الحرب والحرمان.
في غزة .. لا أضاحي تُذبح، بل أحلام، لا زينة تُعلّق، بل الآهات، ولا عيدية تُعطى، بل صمتٌ ثقيل يوزَّع على الجميع، لكن رغم كل شيء، هناك من يصرخ في وجه هذا الصمت: الصلاة باقية… والفرح سيعود مهما طال الغياب.
موقع “أخبار الغد” يفتح أبواب الجراح المغلقة، ويعرض شهادات مؤلمة وصادمة لواقع غزّة المنكوبة، من مواطنين ومختصين، عايشوا العيد كما لم يُعايشه أحد .. عيد بلا عيد.
غياب الأضاحي والزينة يحوّل بهجة العيد إلى ذكرى مؤلمة .. والغزيون يتشبثون بالصلاة كآخر رمق من الحياة
في قلب قطاع غزة، وبين ركام البيوت المنهارة وأصوات الحصار الصامت، يصرّ الغزيون على أداء صلاة العيد، كأنها آخر خيط يربطهم بالحياة، بينما تتلاشى مظاهر الفرح التي طالما ميزت هذه المناسبة من الأضاحي، والزينة، وتبادل الزيارات، في ظل استمرار إغلاق المعابر ومنع دخول المواد الأساسية.
الصلاة تنتصر على الموت .. والفرحة قيد الحصار
أوضح عبد الكريم شعت، مواطن من حي الشجاعية، أن العيد هذا العام يمرّ عليه كوجع مزمن لا علاج له، قائلاً: “اعتدت أن أشتري الأضحية قبل العيد بأيام، أزين البيت وأشارك أطفالي تحضيرات العيد، لكن الآن كل شيء اختفى. لم ندخل لحمة إلى البيت منذ شهور. فقط ذهبنا لأداء الصلاة بملابس متواضعة، شعرنا لحظتها أننا ما زلنا أحياء. كانت الصلاة بمثابة تحدٍ للصمت، صرخة في وجه الظلم والحصار”.
وأكدت هناء المقادمة، من سكان النصيرات، أن الأطفال لم يعرفوا حتى معنى العيد هذا العام، مشيرة إلى أن الزينة اختفت تمامًا من الشوارع والمنازل، مضيفة: “لم نستطع شراء حلوى أو حتى بالونات، لم ندخل شيئًا جديدًا إلى بيوتنا، لا ملابس ولا حتى بسمة. طفلي سألني: (متى يبدأ العيد؟) ولم أعرف كيف أجيبه. لقد صار العيد مجرد تاريخ”.
وأشار الدكتور محمود حسنين، أستاذ علم الاجتماع في إحدي الجامعات، إلى أن غياب المظاهر الاحتفالية لا يعكس فقط الأزمة الاقتصادية، بل يترك أثرًا نفسيًا عميقًا على البنية الاجتماعية في القطاع، قائلاً: “العيد يُعدّ طقسًا هوياتيًا يحمل دلالات اجتماعية وروحية، وغيابه بهذا الشكل يعمّق الإحساس بالعجز والخذلان، ويزيد من تفكك الروابط الأسرية والمجتمعية، خاصة في الأحياء الأكثر تضررًا”.
لا أضاحي .. ولا حتى خراف!
أوضح الحاج سالم أبو عابد، تاجر مواشٍ من خانيونس، أن غياب الأضاحي في غزة للمرة الأولى بهذا الشكل يعتبر فاجعة لم تشهدها الأسواق منذ عقود، موضحًا: “المعابر مغلقة والخراف لا تدخل. الموجود في السوق أسعارها جنونية، ولا أحد يستطيع الشراء. الزبائن يأتون يتفرجون ثم يغادرون. حتى التجار مثلي بدأنا نبيع ممتلكاتنا”.
وأكدت عايدة الزيناتي، ربة منزل من مخيم جباليا، أن الأضحية كانت تقليدًا مقدسًا في العائلة، لكنها هذا العام لم تستطع حتى شراء دجاجة، مضيفة: “كان أولادي يستيقظون فجرًا ليشهدوا الذبح ويشاركوا في تقطيع اللحم وتوزيعه على الجيران، أما الآن فلا يوجد حتى ما نوزعه على أنفسنا. أصبحنا نعيش على الذكريات”.
وأشار ناصر الفرا، موظف حكومي، إلى أن الحصار لم يعد مجرد أزمة عابرة، بل بات يهدد القيم والتقاليد الدينية والاجتماعية، مضيفًا: “منع الأضاحي هو اعتداء على عقيدتنا، وهو تجريد العيد من قدسيته. الناس لم تعد تحتفل، بل تحزن وتخجل من العيد”.
زينة العيد .. صارت من الكماليات
أوضحت رجاء الجوجو، صاحبة محل زينة في دير البلح، أن البضاعة المتبقية لديها تعود للأعوام الماضية، ولا يوجد طلب حقيقي، مضيفة: “في الماضي كنت لا أجد وقتًا للراحة من كثرة الطلبات، الآن لا أحد يشتري. من سيشتري الزينة والناس لا تملك ثمن الخبز؟ أشعر أن غزة تحوّلت إلى سجن صامت، والزينة فيه محرمة”.
وأكد الطفل يزن قديح، 10 سنوات، من عبسان الكبيرة، أن العيد فقد لونه وضوءه، قائلاً: “كنا نضع الأضواء على الشرفات وننفخ البلالين ونغني أغاني العيد، الآن أبي لا يستطيع حتى شراء بطارية لتشغيل الأضواء. أصدقائي يقولون إن العيد انتهى، وأنا لا أعرف كيف أعيده”.
أشار جهاد أبو الروس، ناشط مجتمعي، إلى أن غياب الزينة يعكس صورة أعمق من مجرد فقر أو منع، قائلاً: “الناس باتت تخجل أن تفرح، لأن خلف كل بيت شهيد، وكل حارة فيها بيوت مهدمة. الفرحة في غزة باتت ترفًا ممنوعًا”.
المعابر .. شريان الحياة المقطوع
أوضح الدكتور سامي البيوك، خبير في الاقتصاد السياسي، أن منع إدخال المواد الأساسية بسبب إغلاق المعابر هو السبب الرئيسي لانعدام مظاهر العيد، قائلاً: “المعابر في غزة ليست فقط بوابات تجارية، بل بوابات نفسية. عندما تُغلق، يُغلق الأمل، ويختنق الناس. كل شيء مرتبط بها: اللحم، الزينة، الحلوى، وحتى الحبر لطباعة كتب الأطفال”.
أكد الحاج توفيق السقا، من سكان رفح، أن إغلاق معبر رفح يمنع دخول الهدايا والطرود التي يرسلها أقاربه من الخارج، قائلاً: “كانوا يرسلون لنا ملابس للأطفال، ألعاب، كعك العيد، لكن الآن لا شيء يصل. كأن غزة انقطعت عن العالم، حتى رسائل البريد لا تدخل”.
أشار حسام أبو كويك، من سكان بيت لاهيا، إلى أن الأمر لم يعد مجرد معبر مغلق، بل سياسة ممنهجة لخنق الحياة، قائلاً: “حتى الهواء صار يُراقب. يمنعون دخول الأدوية والمستلزمات، فهل سيسمحون بزينة العيد؟! نحن نعيش في عزلة مفروضة علينا، والعالم يتفرج”.
أمل من تحت الركام
أوضح الشيخ إبراهيم أبو صيام، أن إقامة الصلاة رغم كل شيء هو شكل من أشكال المقاومة، قائلاً: “نحن نرفع تكبيرات العيد في وجه الحصار، ونصلي على الأرض المفخخة بالألم، لأننا نؤمن أن العبادة هي سلاحنا. هذه الصلاة ليست شعيرة فقط، بل موقف، وإعلان بقاء”.
أكدت الشابة ليلى الأسطل، طالبة جامعية، أن صلاة العيد كانت لحظة نادرة من التواصل المجتمعي في ظل التباعد الإجباري، مضيفة: “اجتمعنا في المسجد، بكينا، دعونا، وسلمنا على بعضنا البعض. لم يكن في بيوتنا حلوى، لكن في قلوبنا كانت تكبيرات العيد تضيء ظلام هذا الحصار”.
وأشار علاء قنيطة، منسق مبادرة شبابية، إلى أن بعض الشباب نظموا مبادرات صغيرة لرسم بسمة بسيطة، قائلاً: “قمنا بجمع ملابس مستعملة وغسلناها ووزعناها على الأطفال، رسمنا على وجوههم بالقليل من الألوان. قد تبدو بسيطة، لكنها كانت تعني لهم العيد كله. نحن نحاول أن نزرع فرحة في أرض تم اجتثاث أعيادها”.
غزة، رغم كل شيء، ما زالت تصلي. فقدت الزينة، غابت الأضاحي، خنق الحصار الحياة، لكن الروح لم تنكسر. أهالي غزة لم يعودوا يحتفلون بالعيد كما كانوا، بل صار العيد نفسه فعل مقاومة، وصلاة جماعية ضد الصمت العالمي. ففي كل تكبيرة، رسالة. وفي كل دمعة، تحدٍ… أن غزة لن تموت، وإن صمتت أعيادها.
هكذا كان العيد في غزة… عيدٌ بلا أضاحي، بلا زينة، بلا ضحكات أطفال، لكنه مليءٌ بالصبر والكرامة والدموع المختبئة خلف تكبيرات الفجر.
شعبٌ يحاصرونه من البر والبحر والجو، ثم يسألونه: لماذا لا تفرح؟ غزة لا تفتقر للفرح، بل يُنتزع منها قسرًا، يُمنع عنها كما يُمنع عنها الدواء والغذاء والماء والهواء.
غزة اليوم لا تحتفل، لكنها تصلي. لا تضحك، لكنها تصمد. لا تزين جدرانها، لكنها تزيّن وجه التاريخ بالصبر والتحدي. وكل عيد يمرّ دون أضحية، هو أضحية جديدة تُقدَّم على مذبح الصمت العالمي والتخاذل العربي. لكنها، رغم كل ذلك، لا تنكسر، لأن أهلها باتوا يعرفون أن الفرح في غزة لا يُشترى… بل يُنتزع انتزاعًا من بين أنياب القهر.
سيعود العيد يومًا، وستُذبح الأضاحي، وتُعلَّق الزينة، وتفرح القلوب… لكن حينها لن يكون العيد مجرد مناسبة، بل سيكون انتصارًا. انتصار غزة على كل من أراد لها الموت صمتًا… فغزة لا تموت، بل تُبعث من تحت الركام، أقوى، وأصدق، وأبهى.