مقالات وآراء

الدكتور ناجي عبدالرحيم يكتب: الحق في الحياة .. إرادة شعب

أسطول الوعي والقوة … صمود وصعود الإنسانية في مواجهة التحديات العالمية

استهلال: أسطول القوة … المجهر والمهجر

من خلف عدسات التلسكوب الاستراتيجي تبدو أمريكا كما أرادت لنفسها أن تُرى… قوى نووية وجامعات عظمى ووادي السيليكون ودولار يتصدر التجارة وجيش يطوّق الأرض وحرب اقتصادية عالمية ثالثة تزلزل العواصم العالمية دون إنزال عسكري كردّ على الجنرال الصيني وليد المختبرات في ووهان الذي أغلق العالم وعطّل سلاسل الإمداد،

لكن حين تنقلب العدسة وتُستبدل بالتكبير المجهري العميق يظهر وجهٌ آخر للإمبراطورية… وجهٌ تكشفه تقارير الهجرة وانفجارات الهوية واحتجاجات الشوارع

وتراجع الثقة بالمؤسسات والدولة؛ وجهٌ يهتز من داخل المختبرات لا من الجبهات … من داخل الجامعات لا من ساحات الحرب… من منصات المهاجرين لا من غرف البنتاغون، إنها اللحظة التي تتفكك فيها أمريكا من داخلها… بانقلاب سكاني واشتداد الفروقات بين الأعراق والطبقات وصراعات الهويات والطوائف، فالمهاجر الذي كان يُستدعى ليبني بات يُصوّت ليغيّر… والولاية التي كانت تؤمِن بقانون فيدرالي موحّد باتت تطالب بدستور محلي مستقل؛ أما الدولار فلا يزال يُطبع في واشنطن لكنه يُهاجَر من وول ستريت إلى شبكات العملات المشفرة… ومن صالات البورصة إلى مختبرات الذكاء الاصطناعي.

هكذا يظهر العملاق الأمريكي تحت المجهر… هياكل عملاقة تنهار بتآكل داخلي… شيخوخة ديمغرافية وهجرة عكسية للثروات وتصاعد الديون حتى ٣٥ تريليون دولار وصدام ثقافي مع الداخل الأمريكي نفسه وحرب اقتصادية عالمية متعددة الجبهات… صراع اقتصادي مع الصين… استخباراتي مع روسيا… دعم عسكري للهند ودولة الاحتلال في محاولة يائسة للهيمنة المطلقة على الشرق الأوسط.

ولنا دراسة تحليلية بعنوان “استراتيجية تفكيك النظام العالمي” نجيب فيها على سؤال محوره:

هل نحن أمام لحظة سقوط واشنطن بالنمط نفسه الذي سقطت به روما؟ وهل بات المهاجر بما يحمله من علم وعمل ورفض هو الصانع البديل للمستقبل لا لحساب الإمبراطورية بل على حسابها؟

ففي قلب هذه الأسئلة تُفتح معامل ومختبرات البحث في تاريخ البشرية عن النظام العالمي الذي بُني على صورة أمريكا والحلم الأمريكي، لتكون الحقيقة الماثلة هي إعادة توزيع القوة لا على الخرائط فحسب بل على المفاهيم ذاتها؛ رؤية عبر المجهر لأكبر دول المهجر في التاريخ… كونها لم تُبنَ بالبنادق بل بالحافلات التي أقلّت المهاجرين إلى المصانع… وبالقطارات التي جمعت أعراق العالم في مدن الصلب والفحم، فالحاجة إلى قوى عاملة لبناء القطارات وجمع القطن وتشغيل المصانع والمفاعلات لم تكن الحرية من رسمت خريطة الولايات المتحدة الجيوسياسية والجيواقتصادية ، بل كانت العبقرية الأمريكية في تجميع عالمي للعقول… ألماني يطوّر الصاروخ… هندي يكتب الخوارزمية… لبناني يقود شركة أدوية… مكسيكي يزرع الحقول… ومصري عالم في الفضاء والطب ، هكذا عاشت أمريكا مجدًا صنعه المهاجرون وعاشه العالم حلمًا أمريكيًا ثم بات فيه الخطر كامنًا لا في من نُرحّل بل في من تبقّى منّا ليحكم الباقين، وهو ما دفعنا لفتح المجهر لننظر في أكبر دول المهجر في التاريخ لدراسة الصعود والسقوط… صعود الدولة بالمهاجرين ثم السقوط بأيديهم

سقوط في الداخل سبقه سقوط في الخارج بتعدد الجبهات… إنزال عسكري في العراق… هجوم اقتصادي على الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي… دعم لا محدود لاحتلال عابر للحدود… فأيقظ وعيًا وشعوبًا

استدلال… أسطول الوعي من بحر غزة يسطر صمود وصعود الإنسانية العالمية

هي أساطيل من الوعي الشعبي تخترق عتمة العجز الرسمي والأممي وتعيد تعريف مفهوم الشرعية الإنسانية العالمية، أبدًا لم تكن المراكب التي تُبحر الآن نحو غزة مجرد سفن إغاثة أو قوافل دعم إنساني بل هي لحظة فارقة في التاريخ العربي والعالمي لا تُقاس بالمسافات البحرية بل بعمق الفجوة بين الشعوب الحية والأنظمة التي ماتت سياسيًا يوم أن أُبيد شعب غزة.

استدراك… من الخمسينات عندما كان الحصار عارًا قوميًا

في زمن أول رئيس حكم بعد الملكية كان الحصار يُعتبر جريمة قومية وعدوانًا على شرف الأمة والإنسانية لا مجرد حالة إنسانية، فالشعب المصري خاصة في الجوار كان ولا يزال يعلم أن فلسطين في قلب المشروع العربي والعالمي وأن الشعوب تملك ما لا يملك أي حاكم، لم يكن مطروحًا أن تُغلق غزة في وجه المساعدات أو أن يُحاصر شعبها من الأشقاء قبل الأعداء!

ثم السبعينات… حيث السلام البارد وتكريس العزلة

مع اتفاقيات كامب ديفيد بدأ تحييد القضية الفلسطينية من القرار المصري، و أصبحت غزة على الهامش، فأُغلقت المعابر لأسباب سيادية وتحوّل الصراع إلى ملف أمني ، وتحولت غزة من شقيقة تقاوم المحتل إلى مشكلة حدود وأمن جوار..

فكانت الثورة المصرية… لتصبح القضية الفلسطينية عنوانًا للشرعية الإنسانية

وكان أول رئيس مدني منتخب ، هو استفتاءً صريحًا على إمكانية عودة مصر إلى موقعها الطبيعي في الأمة خارج دائرة التبعية، معلنة النهضة .. إرادة شعب ، ثم قُصفت غزة في نوفمبر ٢٠١٢ فتحركت القاهرة لا لتدين فقط بل لتكتب عنوان الشرعية الإنسانية،  حيث زيارة رئيس الوزراء المصري إلى غزة تحت القصف ، ثم فتح معبر رفح وأعلن الدعم الكامل للحق الفلسطيني، ليوجه الرئيس المدني الشريف السياسي المنتخب ، رسالة قوية حازمة “لن نترك غزة وحدها” ، لذا كانت هذه الرسالة مع الثورة ، إيذاناً وإعلانا أن إرادة الشعوب تصنع التاريخ ، وعليه أصبحت المرحلة كافية لإرباك هندسة الشرق الأوسط التي بُنيت على غياب مصر، لقد كان نموذجيًا صادقًا وقويًا ، فتح المعابر ورفع الحصار ودعم المقاومة ورفض العدوان والإحتلال ، بإرادة شعب وقرار أول رئيس مدني سياسي منتخب ، فكان الإنقلاب بدعم أمريكي ، لا لإسقاط رئيس بل لسحب الاعتراف بسيادة الشعب وإغلاق غزة وإعادة القرار المصري إلى بيت الطاعة الأمريكي.

استفهام… من يجرؤ على حصار غزة أكثر من المحتل

في عهد السيسي لم تُغلق رفح فقط بل جُرّفت أنفاق الحياة وأُحيلت غزة إلى تهمة والدعم لها إلى جريمة والإنسانية إلى شبهة، تحولت مصر الرسمية إلى وسيط أمني لا مدافع عن شرف بل داعم لخطط التجويع واستخدام المعابر كأدوات ابتزاز، لكن الشعب لن يصمت وسيظل قلبه على الضفة الأخرى ووجهته أولى القبلتين وعقيدته النهضة الإنسانية الشاملة.

استقراء… أسطول كسر الحصار… ذاكرة الشعوب أقوى من جغرافيا الحكام

ما حدث في مايو ويونيو ٢٠٢٥ هو رسالة استراتيجية بأن الشعوب لم توقّع على صك الخضوع، الأسطول إعلان بحري وبري بأن الموانئ والمعابر لا تعترف بالحكام بل بالإنسان، وهو ما كشف فشل المنظومة الأممية في تمثيل شعوبها وأثبتت الأساطيل أن التغيير لا يأتي من القصور بل من السواحل والقوارب ووسائل النقل العابرة للحدود،  والمعبرة عن إرادة الشعوب.

استشراف… غزة قلب الشرق ومفتاح شرعية الأمة الإنسانية

الحرب الذكية تُخاض بالبصيرة ، فغزة اليوم ساحة قرار واختبار ، وإختيار ، من خانها سقط واندثر،  ومن دعمها صعد وارتفع ، هي الشعوب الحاضرة رغم اختطاف القرار، فأسطول الصمود أعلن عن  حركة عالمية تتجاوز الحسابات التقليدية وتجمع المتظاهرين من روما وباريس وبرلين إلى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، غزة تصنع ملحمة صعود تُكتب في معاجم الإرادة وتقودها الطفولة من تحت الركام ، وتُصان الكرامة فيها في ساحات العمل الإنساني.

في سطور… الحق والحياة ، إرادة شعب

الحرية تُرسم بسواعد الشعوب، فالتاريخ يُكتب من تحت الركام والمعابر تُفتح بالعزيمة وغزة ليست موقعًا بل ملحمة، صرخة الضمير العالمي “لن ننسى” ونداء أمة حفظت نداء النملة “لا يحطمنّكم” ، إرث يُنتزع لا يُمنح وحقيقة تُعاد صياغتها بأساطيل العدل واحتفاء الكرامة.

 هي رسالة غير قابلة للتأويل، مفادها أن الشعوب هي من تكتب التاريخ وتسطر المستقبل، وغزة عنوان التاريخ القادم، وبوابة الكرامة تُنصب أمام كل من ظن أن القوة تفوق إرادة الإنسانية، هي طريق لا يُقاس بالإحداثيات بل بخطوط الحقوق والحرية والكرامة والشرف، وكل مركب أبحر نحوها أبحر في أعماقنا، وكل يد صدّت الطريق عنها لا تدرك أن الشعوب وُلدت حرة لا تُساق إلى الذل.

في كلمات… إما أن نكون أمة تعبُر إلى غزة أو أن نغرق في المرافئ ككيانات وتحالفات واتحادات ومؤسسات ومنظمات وأحزاب وحركات بلا مضمون وأسماء بلا معنى… والقرار للشعوب… والأيام دول

  • خبير مشاريع استراتيجية – مرشح وزير سابق ونائب رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية
المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى