
لم أكن عرافًا في يوم من الأيام أو ضاربًا الودع، لكنني دائمًا كنت أقرأ ما بين السطور، أحاول الاطلاع على أحدث المعلومات ومواجهة القريبين من القضية المعنية بتلك المعلومات للحصول على مزيد مما لا يمكن أن يقال أمام الكاميرات. وفي أوروبا، حقل المعلومات مفتوح، والعديد من الساسة وصُناع القرار والباحثين لديهم الكثير والكثير مما لا يمكن قوله أمام الشاشات أو على صفحات الجرائد، لكنهم يقولونه ويثرثرون به في جلساتهم الخاصة.
وفيما يتعلق بقضية الصراع بين إيران وإسرائيل، كانت المعلومات غزيرة ودقيقة في آن واحد.. وجميعها كانت تتحدث بلغة واحدة: ضرورة تغيير النظام في إيران للوصول لهدف تفكيك البرنامج النووي.. لماذا؟ لأن الجميع كان يعلم أن قضية امتلاك سلاح نووي بالنسبة لإيران هي مسألة حياة أو موت.. عقيدة ومبدأ.. لا يمكن أن يتنازلوا عنها مهما كان الثمن؛ لذلك كانت المفاوضات معهم بالنسبة للأوروبيين، وفق آخر تقرير سلموه لترامب قبيل الضربة بشهر، مرهقة ومراوغة وغير ذات جدوى، بل إنها تمنح النظام في إيران مزيدًا من الوقت للوصول إلى عتبة النووي.
وهي نفس الاستنتاجات التي خلصت إليها تولسي جابرد مدير DNI الاستخبارات الوطنية الأمريكية (Director of National Intelligence)
في تقريرها الذي أعدته في مارس الماضي وسلمته إلى ترامب شخصيًا.
الغريب أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تلقت بعدها بقليل تقريرًا مُحدّثًا يُحذّر من أن إيران “طوّرت قدرتها على تحويل سادس فلوريد اليورانيوم المُخصّب، وهو ناتج مصانع الطرد المركزي التابعة لها، إلى معدن يورانيوم مُخصّب”.
وبعيدًا عن المصطلحات المعقدة، فقد وصل إلى يقين صانع القرار الأمريكي والإسرائيلي والأوروبي أن إيران قاب قوسين أو أدنى من صنع قنبلة نووية، وأن أول ما ستفعله بها “حسبما ادعت إسرائيل آنذاك” هو مهاجمة دولة إسرائيل.
كان الصراع يدور حول الوقت ففي لقائه الأول، كأول زائر للبيت الأبيض في فبراير الماضي بعد فوز ترامب، أكد بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل للرئيس الأمريكي جاهزيته خلال شهرين لتوجيه ضربة قاصمة وفق تعبيره لإيران.. كان ترامب الذي خرج من اتفاق الدول الخمس زائد واحد في ٢٠١٨ يعرف جيدًا أن إيران لن تمتثل للمجتمع الدولى، ولن تكف عن السعي لامتلاك السلاح النووي.. لكنه آثر أن يظهر أمام الجميع بمظهر المفاوض والباحث عن حل دبلوماسي للأزمة فطلب من نتنياهو أن يمنحه مزيدًا من الوقت.
وفي أبريل الماضي، تحدث الرجلان، نتنياهو وترامب، وأخبر الأخير نتنياهو بقراره النهائي (منح إيران ستين يومًا تبدأ مباشرة من يوم ١٢ أبريل إلى يوم ١٢ يونيو).. المتابعون لحسابي على الفيسبوك يمكنهم قراءة ما كتبته في ذلك التاريخ يوم ١٢ أبريل.. فقد كتبت بالحرف: “لو قدمت إيران التنازلات المطلوبة لأمريكا فيما يخص تفكيك برنامجها النووي.. خاصة بعد فقدها أدوات تأثيرها في المنطقة (حزب الله في لبنان وحماس في غزة وآل الأسد في سوريا والحوثيون في اليمن، وتحجيم أدواتها في العراق) سوف تتسلم راية شرطي أمريكا في المنطقة، وهذا بالطبع يقلل من الدور المصري والتركي وبالتأكيد الإسرائيلي، وهو ما تحاول إسرائيل منعه واستباقه بضربة إجهاضية.. الصراع على الوقت.. والوقت ينفد..”.
لم أكن عرافًا وقتها لكي أنشر هذا الكلام في ذلك اليوم الذي بدأ فيه نتنياهو يعد الدقائق والساعات والأيام ويستعد للضربة بزرع عملائه وتنشيطهم داخل إيران وفق خطة اطلع عليها ووافق على كل بنودها دونالد ترامب.. وفي يوم الثلاثاء ١٠ يونيو قبل الضربة بثلاثة أيام، اتصل نتنياهو بترامب اتصالًا غريبًا، ولكن وفقًا للمعلومات التي كانت متاحة من قبل منذ الأول من أبريل كان الاتصال لأخذ الإذن بالضربة، فالمهلة التي اتفق عليها الرجلان تنتهي يوم الخميس ١٢ يونيو..
يومها، كتبت على حسابي في الفيسبوك ما يلي حرفيًا: “قضي الأمر الذي فيه تستفيان”، واتصل البعض ممن أعرفهم بي للاستفسار، وعندما أسررت لهم بما أعرفه استبعد البعض حدوث ذلك الهجوم خاصةً أن هناك جولة مفاوضات يوم الأحد ١٥ يونيو، وقلت لهم بوضوح لن نصل إلى هذا التاريخ أبدًا، وأن الضربة ستكون قبله.
ومرة أخرى، لم أكن عرافًا حينما قلت هذا الكلام، لكنني كنت مهمومًا بتجميع المعلومات وتحليلها وسؤال كل الأطراف المعنية هنا في أوروبا.. وقد صدق حدسي.
حدد نتنياهو وترامب الهدف من الضربة منذ اللحظة الأولى، وهو خلخلة الأرض من تحت أقدام النظام في محاولة لتمهيد الطريق لتغييره.. لماذا؟.
لأنه ببساطة لا يمكن تدمير برنامج إيران النووي عبر ضربة عسكرية تقليدية..فلكي تقضي على برنامج كبرنامج إيران النووي أنت أمامك طريقان لا ثالث لهما.. أولهما: أن تأتي بنظام جديد متفاهم مع الغرب وأمريكا يقوم بنفسه بتفكيك البرنامج النووي ويضمن سلميته. وثانيهما: أن يتم ضرب إيران بقنبلة نووية.. وهو ما لا تريده لا أمريكا ولا إسرائيل ولا الغرب لأنه سيكون سابقة خطيرة تعزل إسرائيل وأمريكا عن العالم.
وللذين يسألون ولماذا لا يتم تفكيك البرنامج من خلال المفاوضات أقول لهم بكل وضوح إن تغيير أو تعديل العقيدة النووية الإيرانية كمثل من يطمح إلى تغيير فقه القاعدة والجماعات الإسلامية المسلحة ليؤمنوا بالديمقراطية والدولة المدنية.
البرنامج النووي الإيراني بالنسبة لحكام إيران من “الملالي” مثله مثل فكرة الوصول إلى إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة لدى الإخوان والتنظيمات الإسلامية الراديكالية.. كلاهما عقيدة لا يمكن التنازل عنها.
نقاط هادئة:
لم أكن يومًا خبيرًا عسكريًا لكي أحدثكم عن موازين القوى في تلك الحرب، لكنني أعرف جيدًا هدفها النهائي وأهدافها المرحلية بحكم ما اطلع عليه ويأتيني من معلومات أعكف على تحليلها ودراستها.
أولًا: الحرب القائمة هدفها تغيير النظام، كما سبق أن أكدت، في إيران تمهيدًا لوجود نظام آخر يقوم بنفسه بعملية تفكيك البرنامج النووي الإيراني.
ثانيًا: الأهداف المرحلية سبق أن كتبت عنها على حسابي على الفيسبوك منذ انطلاق تلك الحرب وهي تتلخص في:
١- شل قدرة النظام الإيراني على التفكير واتخاذ القرار من خلال استهداف قادة الحرس الثوري والقوى الأمنية والعسكرية، بالإضافة إلى قادة أجهزة الاستخبارات.
٢- تحييد مضادات الدفاع الجوي من خلال ضرب مناطق تخزين الصواريخ والمصانع الخاصة بها وأماكن تمركزها لتخلو سماء طهران من أي حماية.
٣- ضربات المنشآت النووية والبترولية.
وهي ما تحققت جميعها حتى الآن، فيما عدا الهدف النهائي الذي يقضي بتفكيك بنية النظام عبر دفع الإيرانيين للثورة عليه من الداخل.. وهذا الأمر لا يستطيع باحث أو محلل سياسي البت في توقيته على الرغم من كل المعلومات التي ترد من داخل إيران عن انهيار الوضع الاقتصادي والخدمات الطبية وتضارب المعلومات حول الخلايا الإسرائيلية داخل إيران، مما قد يؤدي في النهاية (لا قدر الله) إلى انفلات الأوضاع الداخلية وحدوث ما تصبو إليه أمريكا وإسرائيل والغرب..
إسرائيل:
وللذين تأخذهم نشوة سقوط الصواريخ الباليستية على المباني داخل تل أبيب أقول إن الوقت ليس وقت العواطف، وكلنا يدين المذابح اللاإنسانية التي يقوم بها الاحتلال في غزة وعربدته في المنطقة بكاملها..ولكن الوقائع على الأرض تقول بغير ذلك، فأمريكا والغرب لن يتركا ربيبتهما إسرائيل تقع وهم يقفون موقف المتفرج، ولعلي أحيلكم هنا إلى ما قاله الرئيس السادات -رحمة الله عليه- بعد ساعات من حرب أكتوبر المجيدة إذ أدرك القائد العاقل أنه لا يحارب إسرائيل وحدها إنما يحارب الولايات المتحدة الأمريكية بكل ما تملكه من ترسانات من الأسلحة وضعته حينها، كما تضعه الآن، تحت تصرف إسرائيل، إضافة إلى مليارات الدولارات لإعادة الإعمار وتصليح البنية التحتية التي تضعضعت من جراء الصواريخ الإيرانية.
عض الأصابع:
إن سياسة عض الأصابع التي تفكر بها إيران وتستخدمها لا تصلح لهذه المعركة، لأن الموجود في المقابل صوابع عديدة ليست فقط صوابع إسرائيلية، ولكنها أيضا صوابع غربية وأمريكية وعلينا الانتباه لما قد يحدث في المرحلة المقبلة من الحرب، والتي قد تطول إلى أكثر من شهر من الآن، إلى دخول أمريكا المعركة بكل قوتها، وساعتها سنكون أمام كارثة حقيقية تحيط بالمنطقة ككل.
وماذا بعد؟
ليس لديّ توقعات مستقبلية بالطبع، ولكن كل المعلومات المتاحة تقول باستمرار أمريكا وإسرائيل في طريقهما الهادف إلى تغيير النظام في إيران، ولو أدى ذلك إلى دخول أمريكا الحرب بجانب إسرائيل بشكل عسكري واضح؛ باعتباره الحل الوحيد أمامهما لإزالة التهديد النووي الإيراني الى الأبد.
والسؤال الأكثر إلحاحًا هل ستقف طموحات أمريكا واسرائيل عند هزيمة إيران وتفكيك سلاحها النووي؟ وأقول بكل وضوح: لا.. لن تقف طموحات الدولتين عند هذا الحد الأمر الذي يفرض علينا في مصر واجبات عديدة ربما يحين الوقت للحديث عنها في مقال لاحق.
المصدر/ البوابة نيوز