
في قلب المأساة التي تعصف بالسودان، تبرز قصص تدمي القلوب وتكشف عن عمق الأزمة الإنسانية. شهدت منطقة “شنقل طوباي” فاجعة مؤلمة، بطلتها سيدة مجهولة الهوية ، أتت منهكة من التعب والعطش ، وصلت في حالة إعياء شديد، وصادفت أناساً منحتهم الإنسانية لمسة رحمة. قدموا لها الماء واللبن، في محاولة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جسد أنهكه السفر وشح الموارد. بعد فترة وجيزة، تدهورت حالتها الصحية بشكل حرج، وحاول من حولها إسعافها ونقلها إلى أقرب مستشفى. لكن القدر كان له كلمة أخرى؛ توفيت هذه السيدة في الشارع قبل وصولها للمرفق الطبي.
هذه القصة ليست مجرد خبر عابر، بل هي صرخة استغاثة تعبر عن معاناة الآلاف. ففي كل زاوية من زوايا السودان المنكوب، تُروى قصة، لا بل مأساة، ترويها عيونٌ أرهقها الخوف، وأجسادٌ أنهكها النزوح. قصص لم تُسجل بعد في صفحات التاريخ، لكنها محفورة في وجدان من عاشها، وشهودها هم الأطفال والنساء، والشيوخ، الذين باتوا مجرد أرقام في قوائم النزوح، بعد أن كانوا أصحاب بيوت، وأحلام، وحياة.
هذه ليست قصة واحدة، بل هي صدى لآلاف القصص التي لا تزال تتكشف فصولها في الخرطوم، دارفور، الجزيرة، وكردفان. إنها قصة أُمٍّ سودانية، وجدت نفسها، بلا ذنب، مجبرة على الفرار من وحشية “مليشيات الدعم السريع” التي حوّلت أحلام الأمان إلى كوابيس لا تنتهي.
في يومٍ كان من المفترض أن يكون كأي يوم عادي، استفاقت هذه الأُمّ على أصوات الرصاص والقذائف. لم تكن مجرد أصوات بعيدة، بل كانت تدق على أبواب بيتها، تهز أركان حيّها الآمن. في لحظة، تبخرت سنوات البناء والكد، وتلاشت معاني الاستقرار. الرصاص لا يفرق بين طفلٍ وامرأة، ولا يحترم حرمة منزل أو قدسية حياة. كان الهدف واضحاً: بث الرعب، نهب الممتلكات، وتدمير كل ما يمثل أملاً للناس هناك، في أبشع صور الانتهاك الإنساني.
الخيار الوحيد أمامها، كما آلاف غيرها، كان النجاة بالروح. تركت خلفها كل شيء: ذكريات، ممتلكات، أحلام تراكمت عبر السنين. حملت أطفالها الصغار، وربما ما استطاعت أن تلتقطه من أوراق ثبوتية، أو قليل من المال، لتنطلق في رحلة المجهول. فرحلة النزوح ليست مجرد انتقال من مكان لآخر؛ إنها انكسار للروح، وتمزيق للنسيج الاجتماعي. إنها فقدان للهوية، وشعور دائم بالتهديد وعدم الأمان.
على دروب النزوح الوعرة، واجهت هذه الأُمّ وأطفالها قسوة الطبيعة، و عطش الصحراء، وبرد الليل. كل خطوة كانت تحدياً . وفي كل يوم، كانت تقاوم اليأس، وتتشبث بخيط رفيع من الأمل، أمل في الوصول إلى مكان آمن، مكان لا يسمعون فيه صوت الرصاص، ولا يرون فيه جثث الأبرياء من الأقارب ، ولا يعيشون فيه تحت رحمة الميليشيات التي لا ترحم.
ما فعلته “مليشيات الدعم السريع” لم يكن مجرد صراع مسلح. بل انتهاك ممنهجة لحقوق الإنسان، وتدميراً متعمداً لبنية المجتمع. الاغتصاب، النهب، القتل العشوائي، حرق القرى، حصار المدن، تحويل المستشفيات إلى ثكنات عسكرية، منع وصول المساعدات الإنسانية؛ كل هذه الممارسات لا تعبر عن حرب، بل عن إبادة وإذلال. هذه الميليشيات لم تحارب جيشاً، بل حاربت شعباً بأكمله، وسلبت منه حقه في الحياة الكريمة، في الأمان، وفي البقاء على أرضه.
اليوم، الآلاف مثل هذه الأُمّ يعيشون في مخيمات النزوح، أو في منازل مستضيفة تضيق بمن فيها. كل منهم يحمل في قلبه جرحاً عميقاً، وفي ذاكرته صوراً لا تُمحى من الرعب. إنهم ليسوا مجرد نازحين؛ إنهم ضحايا صمت العالم.