
الهجرة لم تكن رحلة بحث عن ملاذ، ولا كانت انطلاقة مهزومة من واقع مضطرب، بل كانت إعلانًا عن بداية أمة تعرف جيدًا وجهتها، وتدرك يقينًا أن الطريق إلى المستقبل لا يُعبّد بالخوف أو التردد، بل تُرسم ملامحه باليقين والعزيمة.
إن الحديث عن الهجرة النبوية في مستهل العام الهجري 1447 ليس استذكارًا عاطفيًا لحادثة تاريخية، بل هو وقوف صارم أمام المرآة: من نحن اليوم؟ وإلى أين نمضي؟ وماذا تبقى من تلك الروح التي قلبت وجه التاريخ؟
الهجرة كانت فعلًا ثوريًا، لا تعبيرًا عن انسحاب .. كانت قرارًا جريئًا بالخروج من الظلال إلى النور، من العزلة إلى التأسيس، من اللحظة العابرة إلى المشروع الأبدي.
محمد صلى الله عليه وسلم لم يترك مكة مضطرًا، بل خرج ليبني عالمًا آخر، عالمًا لا يسجد فيه الإنسان لصنم، ولا يخضع فيه الحق لمزاج القوة.
ولهذا كانت الهجرة بداية التاريخ الإسلامي، لا انتصار بدر ولا فتح مكة. لأن البدايات الحقيقية لا تكون في لحظة الغلبة، بل في لحظة التحول.
ومع دخول العام الهجري الجديد، أجد نفسي حائرًا بين عام مضى لا نستحق أن نفتخر به، وعام قادم لا أرى أننا مستعدون له.
فهل نحن اليوم ورثة تلك الهجرة، أم مجرد مستهلكين لتقويم نحفظ أرقامه ونجهل روحه؟ أي وزن لهذه الذكرى في وعي أمة استبدلت الحركة بالجمود، والطموح بالارتباك، والثقة بالنفس بالخضوع المَرَضي للواقع؟
إن ما يؤرقني ليس أننا نسينا دروس الهجرة، بل أننا خنقنا معناها الحقيقي تحت ركام الطقوس والمجاملات الرسمية والعبارات المنمّقة الخاوية.
لو أن الرسول اليوم بيننا، هل كان سيجد فينا الأنصار من جديد؟ هل كنا سنفتح له القلوب قبل البيوت؟ أم كنا سنتهمه بالتطرف، أو نطالبه بتخفيف الخطاب، أو نُغلق عليه الأبواب بحجة الحفاظ على “الاستقرار”؟
هذه ليست أسئلة عاطفية، بل هي محك حقيقي لفهم جوهر الهجرة: أن تختار التغيير وأنت في قلب العاصفة، أن تراهن على المجهول لأنك تؤمن بالمبدأ، لا لأنك تضمن النتائج.
نحن نعيش زمنًا يشبه مكة قبل الهجرة: ضيق أفق، جمود فكري، استعلاء قوى الباطل، واستسلام جماهيري مريع. لكن الفارق الكبير أن محمدًا لن يعود بيننا ليقود الهجرة من جديد.
هذه المرة، إن لم نكن نحن المهاجرين إلى وعينا، إلى مسؤوليتنا، إلى استعادة قدرتنا على الفعل، فلن يفعلها أحد نيابة عنا.
لأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا كمهزلة، ونحن – بكل أسف – أصبحنا جزءًا من هذه المهزلة الكبرى التي تسمي نفسها أمة ولا تملك من مقومات الأمة شيئًا.
الهجرة اليوم ليست عبور صحراء، بل عبور وعي .. ليست انتقالًا جغرافيًا، بل اقتحامًا فكريًا .. نحتاج إلى هجرة من عقلية الاتكال إلى ثقافة المبادرة، من التبعية إلى الاستقلال، من الدوران حول الذات إلى اقتحام ميادين العالم بثقة وجدارة.
نحتاج إلى قطيعة جذرية مع منطق الخوف، مع وهم الحياد، مع التبرير المستمر للضعف والانكسار .. الأمة التي هاجرت ذات يوم من مكة إلى يثرب، لا يمكن أن تقبل بأن تمكث أبد الدهر في حافة التاريخ، تراقب وتبكي وتنتظر المعجزة.
أنا لا أكتب لأحرض، بل لأوقظ .. لا أكتب لأستعرض معلومات محفوظة، بل لأقذف بحجر في مستنقع الركود .. لا يعنيني أن يحتفي الناس بالعام الهجري الجديد بالشعارات، ما لم نمتلك الشجاعة لنسأل: ما الجديد فينا؟
أي هجرة قمنا بها على مستوى الفكر أو السلوك أو السياسات أو الرؤية؟ وأي عام هو هذا الذي ندخله بلا مشروع، بلا وعي، بلا رؤية؟
لقد آن الأوان أن نعيد الاعتبار للزمن .. نعم، الزمن .. لأن الأمة التي لا تحترم وقتها، لا يحترمها التاريخ .. أن نكف عن التكرار الأجوف وننتقل إلى التغيير الحقيقي.
أن نستعيد الفعل بعد أن أدمنا ردّات الفعل .. أن نبني بدل أن نشتكي، ونصوغ خطابًا يرتكز على القوة لا العجز، على المبادرة لا التوسل.
في مطلع العام الهجري 1447، لا أطلب الاحتفال، بل أطالب بالحسم .. حسم في الموقف، حسم في الرؤية، حسم في الاتجاه.
إما أن نعود أمة مهاجرة نحو المجد، أو نظل سائرين بلا بوصلة، نعد السنوات وننسى أنفسنا .. لا تنتظروا محمدًا من جديد. إن لم تكونوا أنتم المهاجرين، فستظلون أهل مكة الذين لم يتحركوا .. حتى بعد أن غربت الشمس.