الهجرة النبوية لحظة مفصلية صنعت هوية الأمة وميلاد تاريخها الخالد

في زمنٍ طغت فيه الجاهلية، وتفشى الظلم، وانطفأت أنوار الحق، بزغ فجر الهجرة النبوية كأعظم حدث في تاريخ الأمة الإسلامية.
لم تكن مجرد انتقالٍ من مكة إلى المدينة، بل كانت تحوّلًا مفصليًا في مسيرة الإسلام، رسمت معالم دولة، وأرست دعائم حضارة، وغيّرت مجرى التاريخ إلى الأبد.
إنها قصة بطولة، وصبر، وتخطيط رباني أذهل العقول، لتبقى الهجرة النبوية شعلةً تتقد في قلوب المؤمنين، ودرسًا خالدًا في معنى الإيمان والتضحية.
الهجرة النبوية حدث خالد غيّر مجرى التاريخ ومهد لقيام الدولة الإسلامية
الخروج إلى الطائف طلبًا للنصرة
أوضح النبي محمد أنه قرر مغادرة مكة والتوجه إلى الطائف بعد اشتداد الأذى عليه وعلى أصحابه عقب وفاة عمه أبي طالب سنة 619 ميلادية الموافق السنة العاشرة من البعثة وأكد أنه خرج مشيًا على الأقدام ومعه زيد بن حارثة طامعًا في نصرة ثقيف فأقام هناك عشرة أيام دون أن يلقى استجابة بل قابله أشراف ثقيف بالصدّ والسخرية وأغرى به السفهاء فرجموه بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه بينما كان زيد يقيه بجسده حتى أُصيب برأسه ثم عاد إلى مكة دون نصير
عرض الدعوة على القبائل في المواسم
أشار النبي محمد إلى أنه بعد عودته من الطائف شرع يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج بأسواق عكاظ ومجنة وذو المجاز وفي منى يتتبع القبائل قبيلة قبيلة طالبًا الحماية لتبليغ رسالة ربه وأكد جابر بن عبد الله أنه كان يردد نداءه الشهير ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشًا قد منعوني من أن أبلغ كلام ربي وبيّن الواقدي أن قبائل بني عبس وسليم وغسان ونضر ومرة وغيرها صدوه أقبح صد قائلين إن قومك أدرى بك حيث لم يتبعوك
بيعة العقبة الأولى بداية العلاقة مع يثرب
لفت النبي محمد إلى أنه وبينما كان يعرض دعوته عند العقبة بمنى سنة 620 ميلادية التقى بستة من الخزرج هم أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقُطبة بن عامر وعُقبة بن عامر وجابر بن عبد الله فدعاهم إلى الإسلام فاستجابوا وعادوا إلى يثرب مبشرين بدعوته حتى شاع ذكره في المدينة ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها حديث عنه ثم عادوا في العام التالي مع ستة جدد فبلغوا اثني عشر رجلًا وبايعوه البيعة الأولى عند العقبة
انتشار الإسلام في يثرب على يد مصعب بن عمير
أكد النبي محمد أنه أرسل مصعب بن عمير مع المبايعين ليعلّمهم الإسلام فاستقر في بيت أسعد بن زرارة يصلي بالناس ويدعوهم فأسلم سعد بن عبادة وأسيد بن حضير وسعد بن معاذ وهم من زعماء قومهم وأسلمت قبائلهم جميعًا حتى لم تبق دار من الأنصار إلا وفيها مسلمون باستثناء بعض دور بني أمية بن زيد وخطمة وواقف ووائل
بيعة العقبة الثانية تأسيس الدولة ومقدمات الهجرة
ذكر النبي محمد أن مصعب عاد إلى مكة سنة 622 ميلادية ومعه سبعون رجلًا وامرأتان من الأنصار فلقوه بالعقبة في منى وقالوا أبايعك يا رسول الله فأخذ منهم بيعة على السمع والطاعة والنفقة في العسر واليسر والنصرة والدفاع عنه كما يدافعون عن أنفسهم وعيالهم ثم طلب منهم اختيار اثني عشر نقيبًا فاختاروا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وأشار إلى أنه جعلهم كفلاء على قومهم كما كان الحواريون كفلاء على قومهم في دعوة عيسى بن مريم
الإذن بالهجرة إلى المدينة وبدء الانطلاق
أبان النبي محمد أنه بعد بيعة العقبة الثانية أُذن للمسلمين بالهجرة إلى يثرب وقال لهم إن الله قد جعل لكم دارًا تأمنون بها فبدأ المسلمون بالخروج إليها أرسالًا ونقل عن عائشة أن النبي قال رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين ثم عاد من هاجر إلى الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر ليهاجر غير أن النبي طلب منه أن يتمهل لعله يؤذن له ليكون رفيقه فانتظر وعلف راحلتيه أربعة أشهر استعدادًا لرحلة الصحبة المباركة
هجرة الصحابة ومغادرتهم مكة خفية
نوّه النبي محمد إلى أن الصحابة شرعوا في مغادرة مكة سرًا خشية بطش قريش وكان أولهم أبو سلمة بن عبد الأسد وتتابع المهاجرون فنزلوا على الأنصار في دورهم وأكد أن من بقي بمكة كان بين من ينتظر الإذن أو محبوس أو عاجز عن الخروج فكان المسلمون يخرجون فرادى وجماعات متخفين تاركين خلفهم كل ما يملكون فرارًا بدينهم
قصة أم سلمة ودموع الفراق
بيّنت أم سلمة أن قريش فرّقتها عن زوجها وابنها عند عزمهم على الهجرة فكان بنو المغيرة يمنعونها وبنو عبد الأسد يأخذون ولدها فجلست تبكي يوميًا في الأبطح حتى رق لها رجل من قومها فتوسط في أمرها وسمحوا لها باللحاق بزوجها فسافرت وحدها إلى المدينة حتى لقيت عثمان بن طلحة فأوصلها إلى هناك
هجرة عمر بن الخطاب في وضح النهار
أفاد عمر بن الخطاب أنه هاجر علانية فتقلد سيفه ووضع قوسه على كتفه وحمل سهامه وطاف بالكعبة ثم أعلن تحديه لقريش أن من أراد أن تثكله أمه أو ترمل زوجته فليتبعه فلم يجرؤ أحد على اللحاق به ثم سار إلى المدينة ومعه عشرون من قومه ونزلوا عند رفاعة بن عبد المنذر حيث سبقهم مصعب وبلال وابن أم مكتوم وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر
هجرة صهيب الرومي والتضحية بالمال
أوضح صهيب الرومي أن قريش منعته من الهجرة وطالبته بماله فقال لهم إن تركت لكم مالي تخلون سبيلي فوافقوا فتنازل عن ثروته وهاجر خالصًا بدينه فبلغ النبي قوله فقال ربح صهيب ربح صهيب
تخطيط قريش لقتل النبي وحمايته الإلهية
أكد النبي محمد أنه بقي في مكة بعد هجرة الصحابة ومعه أبو بكر وعلي وكان أبو بكر يستأذنه بالسفر والنبي يجيبه لا تعجل عسى أن يجعل الله لك صاحبًا وحين قررت قريش اغتياله اجتمعوا في دار الندوة واختاروا من كل قبيلة شابًا ليشارك في تنفيذ الجريمة فأبلغه جبريل الخبر وأمره بعدم المبيت في فراشه فأمر عليًا أن ينام مكانه ويلبس برده الأخضر ثم خرج من بيته دون أن يروه مرددًا آية سورة يس وجعلنا من بين أيديهم سدًا حتى أصبحوا فوجدوا عليًا فشلت خطتهم ونزل قول الله ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
التخفي في غار ثور والتجهيز للرحلة
روى النبي محمد أنه ذهب مع أبي بكر إلى غار ثور ليلة 27 صفر سنة 14 من البعثة الموافق 12 سبتمبر 622 ميلادية بعدما أعطيا راحلتيهما لعبد الله بن أريقط ليلحق بهما بعد ثلاث ليال وأكد أن أبا بكر أمر ابنه عبد الله بأن يأتيهما كل مساء بأخبار مكة وأمر عامر بن فهيرة برعي الغنم ليعفي آثارهم كما كانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام وقالت إن قريش حضرت إلى بيت أبيها يسألون عنه فأنكرت علمها فلطمها أبو جهل على وجهها وقالت إنها خدعت جدها الأعمى أبو قحافة بوضع الحصى في كوة البيت حتى يظن أن أباها ترك لهم مالًا
أبو بكر يتلقى لدغة العقرب فداء للنبي
أبان أبو بكر أنه دخل الغار قبل النبي يتلمسه بأصابعه ويسد ثقوبه بثوبه حتى بقي جحر وضع عليه عقبه فلدغته حية وظل يتحامل على الألم حتى فاضت دموعه فلما رآه النبي وضع عليها ريقه فشُفي
مطاردة قريش ونجاة النبي من الأعداء
أشار النبي محمد إلى أن قريش اقتفت أثره حتى وصلت الغار لكنهم رأوا العنكبوت قد نسج بابه فقالوا لو دخله لم يكن هذا العش فعادوا وأكد أبو بكر أنه رأى أقدامهم فوق رؤوسهم فقال يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا فأجابه النبي مطمئنًا يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما
وهكذا، لم تكن الهجرة النبوية حدثًا عابرًا في سجل التاريخ، بل كانت نقطة تحوّل عظيمة غيّرت وجه البشرية إلى الأبد .. بها وُلدت أمة، وتأسست دولة، وامتد نور الإسلام إلى الآفاق.
إنها ملحمة إيمانية خالدة، سُطرت بالتضحية والثبات والتوكل على الله .. ومع كل عام هجري جديد، نستحضر هذه الذكرى العطرة، لنستلهم منها دروس العزة والصبر واليقين، ونُجدّد عهدنا بالسير على نهج النبي ﷺ، حتى يعلو الحق، ويزهق الباطل، ويظل الإسلام منارةً تهدي البشرية نحو النور.