مقالات وآراء

د. عدنان منصور: لماذا يرفض الإيرانيون الولايات المتحدة؟!

العداء المستحكم بين الإيرانيين والولايات المتحدة، لم يكن إلا نتيجة لسياسات التسلط، والقهر، والهيمنة، والاستغلال، التي مارستها واشنطن حيال إيران منذ مطلع الخمسينيّات من القرن الماضي وحتى اليوم.

سياسات ألقت بتراكماتها السلبيّة على علاقات البلدين لعدة عقود ولا تزال. كان شاه إيران محمد رضا بهلوي بمثابة مفتاح البيت الإيراني بيد واشنطن، تفعل ما تشاء داخل إيران دون حسيب أو رقيب. لعلّ أسد علم، الذي شغل منصب رئيس الوزراء، ورئيس الديوان زمن الشاه، يعطينا فكرة واضحة عن مدى النفوذ الأميركي داخل إيران من خلال كتابه «الشاه وأنا» والذي طلب نشره بعد وفاته، فكان له ما أراد.

في 28 أيار/ مايو 1933 وقع رضا شاه اتفاقية مع شركة النفط البريطانية، تتيح لبريطانيا حق استثمار مصادر النفط في إيران لمدة 60 سنة، تنتهي عام 1993. كانت بريطانيا تدفع بموجب الاتفاقية المجحفة 4 شلن عن كلّ طن من النفط المستخرج المنهوب، مع إعفاء الشركة من الضرائب ومن تقديم كشوفات حساباتها للحكومة الإيرانية.

في أواخر الأربعينيات، أعلن محمد مصدق، النائب في البرلمان الإيراني، معارضته للاتفاقيّة مطالباً بتأميم النفط، في حين عملت فيه بريطانيا وعملاؤها في الداخل على إحباط المساعي الرامية إلى تأميم النفط. بعد تولّيه رئاسة الحكومة، أصرّ مصدق مدعوماً من الإيرانيين على تأميم النفط، ما جعل البرلمان الإيراني يوم 15 آذار/ مارس 1951 يسنّ قانوناً بتأميم صناعة النفط. ثارت بريطانيا على التأميم، وقدّمت شكوى إلى محكمة العدل الدولية، ومجلس الأمن، بغية انتزاع قرار أمميّ ضد إيران.

بعد فشلها، قامت بريطانيا بفرض الحصار على إيران، وقاطعت النفط الإيراني، وعملت بالتنسيق المباشر مع الولايات المتحدة على الإطاحة بمصدق عبر انقلاب عسكري، وقفت وراءه الـ CIA، إذ كانت بريطانيا وفقاً لمذكرات أنطوني ايدن وزير خارجيتها آنذاك، «ترى الحلّ الوحيد لقضية النفط إسقاط حكومة مصدق». واشنطن أرسلت رجل الـ CIA كرميت روزفلت لتنفيذ الانقلاب بالتعاون مع ضباط إيرانيين تدرّبوا في الولايات المتحدة، وعدد من رجال مخابراتها، منهم مايلز كوبلاند، وبالتنسيق مع عناصر إيرانية من البلطجيين الكبار في طهران لتنفيذ ما سيطلب منهم.

الشاه الذي كان في خدمة واشنطن ورعايتها، وقبل مغادرته طهران إلى إيطاليا، وقع مرسوماً يوم 19 آب/ أغسطس 1953 بعزل مصدق، تبعه انقلاب عسكري أدّى الى إلقاء القبض على مصدق، والحكم عليه بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى ثلاث سنوات، وفرضت عليه إقامة جبرية طيلة حياته وحتى وفاته عام 1967. هكذا بدأت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تعزّز من وجودها وسلطتها في غربي آسيا، لتحلّ مكان بريطانيا وفرنسا، وترسم سياساتها الاستراتيجية على الساحة الدولية، وتبسط نفوذها على الشرق الأوسط برمته، لا سيما إيران الشاه، التي التصقت بأميركا بعد الإطاحة بمصدق من خلال سياسة مشتركة، جعلت من إيران حليفاً استراتيجياً لواشنطن، وقاعدة لها في مواجهة «المدّ الشيوعي».

أصبح الشاه بعد ذلك، رجل واشنطن الأول، والمعادي لحركات التحرر الوطني، وللسياسة الناصرية في المنطقة، وداعماً قوياً لـ «إسرائيل». بعد ان قبضت واشنطن على القرار السياسي الإيراني، دخلت إيران في حلف بغداد عام 1955، وخرجت منه بعد الإطاحة بالنظام الملكي العراقي عام 1958 وقيام الجمهوريّة. بعد ذلك نشأ مكانه الحلف المركزي (السنتو) حيث انضمّت إيران إليه عام 1959، وخرجت منه بعد قيام جمهوريتها الإسلامية عام 1979.

لقد كان لواشنطن في إيران نفوذ عسكري واسع، هذا النفوذ جعل حكومة أسد علم تقدم يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963 مشروع قانون إلى المجلس النيابي، يعطي بموجبه عناصر القوات الاميركية في إيران الحصانة القضائية. بعد تصديق المجلس على المشروع يوم 9/9/1964 قام الإمام الخميني في ذلك الحين بشنّ هجوم قوي، مندّداً بنفوذ الأجانب وهيمنتهم على البلاد، معلناً معارضته لإبرام المعاهدة، ومطالباً الحكومة والمجلس برفض القانون، واصفاً الذين تبنّوه «بأنهم خونة، لقد خانوا الوطن».

جاءت الثورة الإيرانية لتقلب المعادلة عام 1979 ليس في إيران فقط، وإنما على صعيد المنطقة كلها. إذ أعلنت الثورة على الملأ مواقفها الصارمة المناهضة للهيمنة الأميركية، والتسلط، والأحلاف، وللاحتلال الإسرائيلي. لم ينسَ الإيرانيون الفترة التي تسلّطت فيها أميركا على سياسة بلدهم، وسيادته، وقراره، وثرواته، وما فعلته بحق وطنهم، وبرمزهم الوطني محمد مصدق، ودعمها وحمايتها للطغاة والعملاء، والمأجورين لديها. من البديهي أن تقف واشنطن ومعها الغرب و»إسرائيل» ضدّ إيران الثورة بعد سقوط الشاه، وبعد قطع علاقاتها مع الكيان «الإسرائيلي»، وسحب اعترافها منه، ودعمها المطلق للقضية الفلسطينية، ولحركات المقاومة في المنطقة، ووقوفها إلى جانب الأنظمة الوطنية الرافضة لهيمنة الغرب وتسلطه.

كان وقع الثورة الإيرانية على واشنطن شديداً للغاية. هنري كيسنجر اعتبر «أنّ الولايات المتحدة لم يكن لديها أوفى من الشاه الذي أهملته، وأنّ سقوط الشاه هو هزيمة كبرى للولايات المتحدة»!. رغم معاصرة إيران الثورة لثمانية رؤساء أميركيين، فإنّ صورة «الشيطان الأكبر» لا تزال راسخة في أذهان الإيرانيين، نظراً لما سبّبه رؤساء الولايات المتحدة للشعب الإيراني على مدى عقود، من أذًى وظلمٍ وتسلط، وحصار، وعقوبات تعسفيّة.

كان الإيرانيّون على يقين وقناعة تامة بأنّ أميركا تأخذ بالاعتبار مصالحها فقط، ولا يهمّها مصالح الشعب الإيراني، إذ دعمت أعتى نظام دكتاتوري شاهنشاهي ألحق بالإيرانيين القهر، والعنف، والفقر، والويلات. منذ 46 عاماً لم تتخلّ واشنطن عن سياساتها العدائيّة، ولم تتوقف عن قراراتها التعسّفية، وعقوباتها الشرسة حيال إيران، بل فرضت على حلفائها وأصدقائها، وأعدائها الالتزام بها، وإلا تعرّضوا لعقوباتها.

لقد وقفت الولايات المتحدة مع حليفاتها، بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، إلى جانب صدام حسين في حربه على إيران، حيث زوّدوه بأحدث الأسلحة والمقاتلات المتطوّرة، والمواد الكيماوية، كما زوّدوا الاستخبارات العراقية بالمعلومات العسكرية والميدانية عن إيران، من خلال الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية بدقة عالية عن مواقع التدريب للجيش الإيراني وتحركات مركباته وانتشار جنوده على الأرض.

واشنطن لم تلغ من حساباتها منذ عام 1979 العمل على الإطاحة بالنظام الإيراني والقضاء عليه تحت أية ذريعة كانت، ولم توقف الاتهامات المغرضة، ولا العقوبات القاسية، ولا الحصار الظالم، بل ظلّت تلوّح بالحرب على إيران من آن الى آخر. ما تريده واشنطن هو إخضاع إيران بالحرب، وتحقيق سلام الأمر الواقع عن طريق القوة والعدوان. ما لم تستطع واشنطن تحقيقه بحربها الناعمة ضدّ طهران، أرادت تحقيقه مع دولة الاحتلال عبر عدوان همجيّ لا غطاء قانونياً وأممياً له، شنّته على إيران بذريعة سعيها لامتلاك سلاح نووي.

الولايات المتحدة أغمضت عينيها ومعها الغرب، عن الترسانة النووية لـ «إسرائيل» التي رفضت الانضمام الى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ورفضت أيضاً تفتيش منشآتها النووية. رغم ذلك أرادت واشنطن فرض الأمن والسلام في المنطقة من خلال عدوانها الذي انتهك بشكل فاضح القانون الدولي، وقصف المواقع النووية السلمية لدولة عضو في الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

أرادت أميركا وربيبتها «إسرائيل»، اقتلاع النظام الإيراني من خلال عدوان مركب، هجوم عسكريّ من الخارج، يتزامن مع خروج الخلايا الإرهابية النائمة من أوكارها، والتي تديرها شبكات التجسّس والاستخبارات الأميركية والإسرائيلية والبريطانية وغيرها، لاستنزاف النظام من الخارج، والانقضاض على الدولة، وأجهزتها، ومؤسساتها، وتفكيكها من الداخل. حلم واشنطن وتل أبيب بإسقاط النظام الإيراني لم يتحقق، وإنْ ظرف المعتدون عدوانهم المشين وأسبغوا عليه صفة النصر.

المواجهة بين إيران وأميركا لن تتوقف، طالما انّ الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن حروبها، ومؤامراتها، ومغامراتها، وقواعدها العسكرية، مستمرة في سياساتها العدائية ضدّ إيران التي آلت على نفسها التصدي بكلّ حزم لسياسة البلطجة والاستبداد التي يمارسها بحقها طاغوت العصر، وإلى جانبه مجرم حرب

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى