شباك نورمقالات وآراء

الدكتور أيمن نور يكتب: عمري قرابة ألف عام ولا زلت أُولد عندما يطفئوني

ورقة من مذكّراتي
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
عمري الآن قرابة ألف عام
ولا زلت أُولد عندما يطفئوني


لا ذاكرتي ولا مذكّراتي أرشيفٌ زمنيٌّ بارد، ولا مجرّد صندوق خشبيّ يعلوه غبار الأيام
بل هي تركيب بانورامي هائل، سيمفونية مكتظة بالنوتات الموسيقية، تبدأ بمكاتيب كُتبت على أوراق الحب الأول، وتنتهي بمصحف أمي الذي لا تزال صفحاته تعبق برائحة السكينة.
في زوايا هذه الذاكرة، زمنٌ محفور على جبين أبي، وجرحٌ مقيم على جبين ابني، وأملٌ وُلِد من رحم اليأس، فعاند الهزيمة، وظلّ يمشي على ساق واحدة: اسمها “الكرامة”.
كنتُ يومًا، في مطلع خريفٍ مصريٍّ قديم، رئيسًا لاتحاد طلاب الجمهورية، للمدارس الثانوية ومعاهد المعلمين والمعلمات، وكان وطني حينها يشبه قصيدةً مكسورة في دفتر حُكمٍ يتداعى.
كان سبتمبر يطلّ علينا كما لو أنه سيُعلن انقراض الأمل، وفي صباحٍ من تلك الصباحات المشحونة بالتوجس، اجتاحت البلاد واحدة من أعنف حملات الاعتقال السياسي .. بمقاييس ذلك الزمن.
نحو ألف وستمئة اسم، بينهم شيوخ وكُتّاب وطلاب .. اقتيدوا إلى حيث الصمت الإجباري، وبقيت مصر شاهدةً على هذا الجُرح المفتوح.
لم تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة التي تمتدّ فيها أيدي الظلم إلى كتفي.
فأنا من أولئك الذين وُلدوا في ديسمبر، في حضرة العواصف، فلا تهزّهم الرياح، بل تُولد في صدورهم صلابة وحنين.
رغم الخناجر التي زُرعت في ظهري، من أقربهم وأبعدهم، لم أفقد إيماني بهذا الوطن الذي أحببته حتى وهو يطردني منه، ويُنكرني كما لو أنني لم أكن يومًا شيئًا فيه.
على مدار خمسة وأربعين عامًا أو يزيد، مشيتُ وسط الحريق، لا ألتفت إلا لضميري. رافعًا شعاري:
“من يدخل الغابة لا يخشى حفيف الأشجار”
خضت عشرات المعارك، من اتحادات الطلبة إلى الانتخابات البرلمانية، ثم الرئاسية .. ولم أكن أجهل طريق الأشواك، بل عرفته وأحببته .. لأنه وحده الطريق الذي لا تُبنى عليه قصور الزيف.
قبل عشرين عامًا خضتُ أول انتخابات رئاسية في تاريخ هذا البلد المتعب.
كنت أعلم أن الطريق طويل، وأن العتمة كثيفة، وأن التزوير أكثر تنظيمًا من الحقيقة
لكنني كنت أراهن على الضوء، لا على الظلم والظلام.
واليوم، وبعد مرور ما يقارب عقدين على انتخابات ٢٠٠٥، لا تزال يد الله تمتحن صبري، ولا تزال هذه الذاكرة تنزف، كما لو أن كل عامٍ يساوي قرنًا من الجراح.
لا أدري كيف يُقاس عمر الإنسان
أبعقارب الساعة؟ أم بعدد الخيانات؟
أم بكوابيس السجون؟
حين أنظر في مرآتي، لا أرى رجلًا في مطلع الستين
بل أرى رجلًا يُشبه ألف عام من الغربة، والمنفى، والاعتقال، والعزلة، والمقاومة.
في سجني الخامس –وكان الأطول– لم أسمح لليل أن ينتصر عليّ.
أعوام طويلة كانت كافية ليجفّ القلب .. لكن قلبي لم يجف.
كنت أكتب كل ليلة على جدران الزنزانة:
“قد يكون السجن محنة،
لكنه –في حضرة الإرادة– منحة.
فقد يُقيّدون معصمي،
لكنهم لن يُقيّدوا قلمي.”
لم أخرج من السجن في ٢٠٠٩ منتصرًا، ولا مهزومًا .. فقط، خرجتُ مُثخنًا بالخذلان، من غدر الخِلّان.
ثم خرجت ثانيةً بعد ثلاثة أعوام، لكن ليس من سجون مصر، بل من مصر نفسها .. في ذكرى هذا الرحيل المر من عام ٢٠١٣، وكأنني أُودّع ظلّي وذكرياتي وبيتي ومكتبي دفعة واحدة.
لم يكن خروجًا .. بل امتدادًا للألم.
بعد سنواتٍ منعوني فيها من كل شيء: عملي، نقابتي، حزبي، مكتبي، اسمي .. حتى صورتي في الصحف لم تكن تُنشر إلا مشفوعة بالتشويه.
أحاطوني بالوشاة، سكبوا النار في بيتي، وعلى مقرّي، وأحرقوا –معهما– ما تبقى من الشعور بالأمان في الأوطان.
لكنهم لم يعلموا أنني لا أُهزم حين أُطعن .. بل أُولد.
في كل مرة ظنّوا أنني انتهيت،
كنت أفتح في داخلي نافذة جديدة
وأتنفّس من خُرم إبرة.
الحياة كانت –ولا تزال– معركة،
وقلبي لم يكن يومًا ملعبًا
بل ساحة قتال، لا تعرف الانكسار.
واليوم، بعد أكثر من أربعة عقود من النضال، لم يتبقَّ لي سوى حلمٍ واحد:
أن أعود إلى وطني حرًّا،
أن أكون الصوت الذي لم يُصادر،
والرمز الذي لم يُكسر،
والوجه الذي لم يُغيَّب في ألبوم صور المعارضين المنسيين.
فرمانات الاغتيال التي استهدفتني لم تقتلني .. لكنها أوجعتني.
وما يُؤلم أكثر من الظالم، هو من تواطأ معه صمتًا.
ومع ذلك، لا أُعاتب، ولا أُبالي.
لأن اليقين في داخلي أقوى من بنادقهم،
وأكثر صبرًا من عسسهم ومخبريهم.
هم يراهنون على أعواد المشانق،
وأُراهن أنا على رقاب عصافير تطير وتحلم بالحريّة
الحرية التي لا تموت بالبندقية،
ولا تُهزم بقوائم إرهابية،
ولا تُخرسها جراح الغربة،
ولا تُصادرها الحدود.
وإن كان عمري يُقاس بعدد السجون والمنفى والخذلان،
فإن ميلادي الحقيقي
كان في كل مرة قلت فيها:
“لا”.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى