
إن اللحظات التي أعقبت الحرب الإيرانية الصهيونية مثّلت منعطفًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في مسار الصراع الإسلامي الصهيوني.
لقد أدركت المقاومة في غزة، بحكمة المؤمنين وبصيرة المجاهدين، أن الزمن قد هيّأ فرصة لا تتكرر: عدو مرهق، مشهد إقليمي مضطرب، وشعوب تهفو للثأر من جرائم طال أمدها.
فكان القرار، وكان التخطيط، وكانت الحركة في الوقت المناسب.
لم يكن ما جرى عملاً عفويًا أو رد فعل محدود، بل كان ثمرة عقل تخطيطي استراتيجي غير مسبوق، اقترن بيقين شرعي في نصر الله لعباده المؤمنين.
لقد جمعت المقاومة بين الذكاء الميداني والتوظيف الأمثل للجغرافيا والأنفاق، وبين الاستسلام الكامل لسنن الله تعالى في النصر، ولعل قوله سبحانه: {وما النصر إلا من عند الله}، كان الحادي في كل خطوة.
ومن فوق الأرض وتحتها، كانت الخطط تُنسج والضربات تُنزل، والعدو يتخبط لا يدري من أين يُؤتى، وكل ذلك في ظل تفاوض مقاوم، رافع الرأس، ثابت على القضية، معتز بالثوابت، يفاوض من موقع القوة لا من حفرة الاستسلام.
كانت الرؤية الإيمانية والتخطيط الاستراتيجي في مواجهة العدو على مجموعة من المحاور:
المحور الأول.. الخلفية الاستراتيجية للحظة ما بعد الحرب: لقد مثّل اندلاع الحرب بين إيران والكيان الصهيوني صدمة كبرى للمنظومة العسكرية الإسرائيلية، حيث استُنزفت قدراته في جبهة طويلة المدى، وانعكس هذا مباشرة على قدراته في الجنوب، في مواجهة غزة.
في هذه اللحظة الفارقة، تحركت المقاومة بخطى واثقة، تدرك أن إرهاق العدو يمثل بوابة لاختراقه.
كانت المقاومة قد أعدّت منذ شهور لسيناريو كهذا، فبدأت بخطط إنهاك متواصلة، لمجرد الضغط من أجل وقف إطلاق النار، بل لإثخان العدو والانتقام لدماء الشهداء، ولإجباره على التقهقر من الميدان السياسي والميداني.
المحور الثاني.. المنهج الشرعي في استثمار الفرص:
إن من سنن الله في النصر، أن يُؤتى العدو من حيث لا يحتسب، وأن تُستغل لحظات ضعفه لأخذ زمام المبادرة.
وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتأكيد هذا المعنى، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتمان الخطط وتحين الفرص، واعتبر الحرب خدعة.
وفي هذا السياق، فإن ما فعلته المقاومة ليس مجرد استغلال تكتيكي، بل تطبيق شرعي دقيق لفقه السنن، فقد تم اختيار التوقيت بعناية، والضرب بدقة، واستثمار كل لحظة لهوٍ للعدو، كما فعل النبي في غزوة مؤتة حين قال: “إنها الحرب خدعة”، وكما فعله خالد بن الوليد في التلاعب بصفوف الأعداء.
المحور الثالث.. التخطيط الاستراتيجي للمقاومة في غزة:
أثبتت المقاومة أن العمل المقاوم يمكن أن يجمع بين العبقرية الميدانية والإبداع التخطيطي.
فقد استُخدمت الأنفاق بكفاءة غير مسبوقة، مما مكّن المقاتلين من التنقل الآمن، وزرع العبوات المتكررة في نفس المواقع دون كشف، كما استُخدمت الجغرافيا بأعلى كفاءة، من داخل المناطق المأهولة، وبين المزارع، وتحت الأرض، مما جعل ضربات المقاومة مركّزة وقوية وصعبة التتبع.
لقد أربك هذا الأداء الجيش الصهيوني، وجعله في موقف دفاعي دائم.
المحور الرابع.. النصر بين التدبير والتوكل:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، آية اختزلت كل ما حصل، فقد اجتمع في المقاتلين التوكل الصادق على الله، مع حسن التدبير والتخطيط، وهذا الجمع بين الأمرين هو سر النصر في الإسلام.
كانت الدعوات تملأ السماء، والقلوب معلقة بالله، ومع ذلك لم يتوقف العمل، بل تصاعد، وهذا من أعظم ما علمنا إياه القرآن: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”، فالإعداد فعل إيماني لا يقل عن الدعاء.
المحور الخامس.. طاولة التفاوض بكرامة:
إن أعظم ما يميّز المرحلة الحالية أن المقاومة تفاوض من موقع القوة، لم تعد تدور على العواصم تستجدي وقف إطلاق نار، بل هي الآن تضع الشروط، وترسم ملامح الاتفاق.
التفاوض الآن ليس تنازلًا، بل تثبيتًا للإنجازات، وفرضًا للواقع الجديد. المقاومة تفاوض وهي ترفع رأسها، معتزة بثوابتها، وبدينها، وبشعبها الذي صمد.
ختامًا: لقد علّمتنا غزة مرة أخرى أن النصر لا يكون بالكثرة ولا بالسلاح فقط، بل بالإيمان والتخطيط والفرصة.
وأن ما يخطه المجاهدون فوق الأرض وتحتها، هو امتداد لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: “اجمع بين التوكل والعمل، بين الذكر والعدة، بين الصبر والتخطيط”.
وإن أعظم ما يُخشى اليوم أن لا تلتحق الأمة بهذه اللحظة التاريخية، فالنصر قد لاحت ملامحه، والمقاومة فتحت الطريق، فهل تُكمل الأمة المسير؟