الفساد يلتهم الدول والمؤسسات تتفرج وأرقام المنظمات الحقوقية تفضح المستور علنًا

فضحت منظمة الشفافية الدولية في تقريرها الأخير لعام 2024 وضعًا عالميًا متدهورًا في ملف الفساد، بعدما كشفت بالأرقام عن انخفاض طفيف لا يُعتدّ به في المؤشر العالمي، ليبدو كما لو كان مجرد قناع هش لإخفاء عمق المستنقع الذي تغرق فيه أنظمة بأكملها.
المؤشر لم يرتفع، بل تراجع طفيفًا، ما يؤكد أن مكافحته لم تعد على أجندات حقيقية، بل تحوّلت إلى عناوين مكررة وأرقام مملة تُصدر لتسكين الرأي العام وتلميع وجوه مكشوفة.
أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي عن تسجيل 27 قضية فساد جديدة في شهر مارس 2025 وحده، بنسبة زيادة بلغت 4.5% عن الشهر السابق، ما يؤكد أن الفساد في قلب المؤسسات الأمريكية ليس ظاهرة عابرة، بل واقع ممتد، يكشف أن أروقة الحكم لا تزال مرتعًا للانتهاكات، وأن الرقابة هناك لا تخرج عن كونها محاولات لاحتواء الفضيحة لا استئصالها.
وثّقت منظمة Partners for Transparency سبعين حادثة فساد خلال شهر فبراير 2025، في مختلف القطاعات، بزيادة 4.41% عن شهر يناير، وهو رقم مخزٍ يعرّي الحالة الكارثية التي بلغها المشهد العام. سبعون واقعة خلال ثلاثين يومًا فقط تكشف أن الأيدي تعبث، والأموال تُهدر، والأنظمة تراقب بصمت، كأنها عاجزة، أو ربما متواطئة، فيما يتجاوز الإهمال ليصبح اشتراكًا ضمنيًا في الجريمة.
صرّحت الأرقام بما لا يحتمل تأويلاً: هناك حالة انهيار فعلي لمنظومات النزاهة والرقابة في دول كثيرة، بينما تتصاعد الثرثرة حول “مكافحة الفساد” بلا أثر ملموس على الأرض. لا قوانين رادعة تُطبّق، ولا مسؤولون كبار يُحاسبون، بل تُدفن القضايا تدريجيًا في أدراج المكاتب، ويُعاد تدوير الفاسدين في مناصب مختلفة تحت مسمى “الخبرة”.
أشارت المعطيات المستخلصة من تقارير المنظمات الثلاث – الشفافية الدولية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، وPartners for Transparency – إلى أن هناك تواطؤًا دوليًا ناعمًا في التعامل مع الفساد، وأن من يفترض بهم أن يفضحوا الممارسات، يكتفون برصدها دون تحريك ساكن، في مشهد مخجل يكرّس سياسة الإفلات من العقاب.
أكدت هذه الأرقام أن الفساد لم يعد مجرد ممارسات فردية، بل شبكة متداخلة تمتد من صغار الموظفين حتى مراكز القرار. كل رقم في تلك التقارير يروي مأساة شعب يُنهب، وخدمة عامة تُنهار، وثقة مواطن تُسحق يومًا بعد يوم، تحت أنظار من يُفترض بهم حمايتها. والمريب أن الكل يتحدث عن “رصد” و”مراقبة”، لكن لا أحد يتجرأ على المحاسبة الفعلية، وكأننا أمام عرض مسرحي طويل ومملّ لا نهاية له.
لفتت هذه المؤشرات إلى واقع يُدار فيه الفساد بعقول محترفة، تستبق كل محاولات القبض عليه، وتُحسن تمويه الأدلة وتدوير الأموال والقرارات والصفقات، بينما المؤسسات الدولية تمارس نوعًا من “التمثيل الإحصائي”، تعرض فيه أرقامًا بلا نتائج، كأنها تقول: “نحن نعرف، لكننا لا نتحرك”.
استغرب كثيرون من هذا الصمت المدوي من جهات يُفترض أنها حارس النزاهة، وتساءلوا: ماذا ينتظرون؟ أن تتحوّل مؤسسات الدولة إلى شركات خاصة؟ أن تُصبح الصحة سلعة والتعليم تجارة؟ أم أن الفساد لا يُدان إلا إذا خرج عن السيطرة على نحو يُحرجهم إعلاميًا؟
انتهى تقرير الأرقام، لكنه لم يغلق ملف الفساد، بل فتحه على مصراعيه. ما دام المسؤول يسرق، والرقابة تبتسم، والمنظمات تصدر تقاريرها كأنها واجب سنوي لا أكثر، فإن الفساد باقٍ، يتمدد، ويعيد إنتاج نفسه بصيغ مختلفة، بينما الشعوب وحدها تدفع الثمن الحقيقي لكل رقم تُوثّقه هذه التقارير.