مقالات وآراء

نادر فتوح يكتب: العمل العام بين الصدق وسهام النقد

في زمنٍ تتعدد فيه المسؤوليات وتتقاطع فيه المصالح، تظل قضية العمل العام من أكثر القضايا إثارةً للجدل.. بين من يراها بوابةً للسلطة والنفوذ، ومن يتعامل معها كعبءٍ ثقيل لا يحتمله إلا من نذر نفسه لخدمة الناس خالصًا لوجه الله.

والحق أن تصدُّر العمل العام ليس شرفًا يُمنح، بل تكليفٌ يُحمَل.. مسؤولية لا يعرف مرارتها إلا من خاضها بإخلاص، وذاق متاعبها في صمت. فالذي يختار هذا الطريق، لا يختاره لأنه الأسهل، بل لأنه الأصدق، والأقرب إلى ضميره وربّه.

سقف التوقعات.. أول المعوقات
من أصعب ما يواجهه من يتصدر العمل العام، هو الصراع اليومي مع توقُّعات الناس.. إذ تُختزل التجربة كلها في سؤال واحد: “هل حصلتُ على ما أريد؟” وإن كانت الإجابة لا، سقط كل ما سبق في بئر النسيان، مهما بلغ حجمه.

الناس – في الغالب – لا ترى إلا النتيجة.. ولا تهتم بما سبقها من سعيٍ وجهدٍ ووقت. ولهذا، يطالب البعض بالكمال، ويتجاهلون أن العمل العام يُدار في واقعٍ معقّد، لا في مدينة فاضلة. وقد تُنسى تسعة أعشار الجهد، لمجرد عُشرٍ تأخر أو تعثّر.

ما خلف الكاميرات
وراء كل قرارٍ صغير، جهدٌ خفي لا يُرى. خلف كل تسهيل أو خدمة، سلسلة من المحاولات والاجتماعات والمكالمات وطرق الأبواب. لكن لأن هذا كله لا يظهر على السطح، لا يُذكر ولا يُحتسب.

كثير من المسؤوليات تُمارَس في الظل.. بعيدًا عن الأضواء، أغلب النجاحات لا تُدوَّن بأسماء أصحابها، بل تمر مرور الكرام، وحين يتأخر إنجاز، تُشهر سهام النقد، ويُنسى كل ما سبق.

سددوا وقاربوا
من يعمل في الشأن العام بإخلاص، يعلم جيدًا أن المطلوب منه ليس الكمال، بل القُرب من الممكن. أن يُسدِّد ويُقارِب.. أن يعمل بما هو متاح، لا بما يُتمنّى. فكما تقول القاعدة: “ما لا يُدرك كله، لا يُترك جلّه”.

النجاح في هذا الميدان لا يُقاس بكم التصفيق، بل بصدق النية، ونُبل المقصد، وحجم الأثر الذي يتركه في حياة الناس، ولو كان بسيطًا.

التقدير.. والقانون
من أكثر المفاهيم التي تُساء قراءتها في العمل العام، ما يُعرف بـ”السلطة التقديرية”، وهي تلك المساحة القانونية التي يُخوَّل فيها المسؤول بأن يوافق أو يرفض أو يؤجّل، وفقًا لما يراه من مصلحة عامة.

لكن هذه السلطة ذاتها، كثيرًا ما تتحوّل في عيون البعض إلى ذريعة للهجوم أو التشكيك، رغم أنها جزءٌ أصيل من أدوات الإدارة الرشيدة، ومُقنّنة في جميع الأعراف المؤسسية.

الجزاء.. لا يُنتظر من الناس
ومن اختار هذا الطريق، عليه أن يتحرر من انتظار الشكر أو التقدير.. فالناس لا تزن النوايا، ولا تُبصر الجهد المبذول في الخفاء. وحده الله يعلم كم تعبت، وكم اجتهدت، وكم أُرهق ضميرك وأنت تحاول.

الجزاء الحقيقي ليس في كلمات المدح، بل في الأثر الطيب.

الدعوة الصادقة من قلبٍ مجهول، قد تساوي ألف تصفيق، وما كان لله.. لا يضيع عند الله.

وختامًا.. من اختار هذا الطريق، فليحتمل وعورته.. فالعمل العام طريقٌ مُتعب، لا تصحبه الراحة، ولا ينجو فيه صاحبه من النقد، ولا يحفظه الناس إلا إذا وافق هواهم، لكن من سار فيه بإخلاص، فليطمئن.. فإن رب الناس لا ينسى من خدم عباده، ولو نساهم هم.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى