مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: بين أروقة العدالة وزيف الادعاءات .. حكاية لا تُنسى

في عالم القضاء، تتداخل الأدوار وتختلط الحقيقة مع الأداء، فتتحول قاعات المحاكم إلى مسارح يتنافس فيها البعض على الإقناع، وربما التمويه، وحيث تتردد أصداء الحقيقة، وتتشابك خيوط البراءة والإدانة، تتجلى مشاهد لا يدرك عمقها إلا من شهدها عن كثب.

هنا، في رحاب الصرح الذي يُقام على أسس العدل، قد يختلط الأمر على البعض، فتتوارى الحقائق خلف ستار من الأداء المسرحي، وتُهتف البراءة بصوتٍ عالٍ، بينما تصرخ الجرائم في الخفاء.

كنت شاهدًا على مشهد لا يُنسى، فلقد رأيتُ بأم عيني، وشهدتُ بقلبي، كيف يتحول المشهد القضائي أحيانًا إلى ما يشبه ساحة للعروض، حيث يُطل المحامي الشاطر وكأنه فنانٌ على خشبة المسرح.

ويدافع البعض كأنهم أبطال في دراما مشوقة، ويرفعوا الصوت، يُبرزوا العبارات، ويُطلقوا العنان لبلاغتهم، مُبحرًين في أعماق النصوص القانونية، وكأنه ينسج ثوبًا من الكلمات ليُغلف به المتهم، أملًا في ستر حقيقته، ظانين أن قوتهم بالكلمات هي المفتاح الوحيد للبراءة.

لكن خلف هذا الضجيج، تكمن حقيقة لا تنكر، في اعترافات هامسة بين أروقة الزنزانة، تعيد ترتيب الوقائع وتكشف الزيف، ويتصاعد الصراخ، تُقسم الأيمان المغلظة، وهم يطلقون أقسمتهم النارية في وجه هيئة المحكمة، ويُجزم المتهمون الأبرياء براءتهم، حتى ليُخيّل للسامع أنهم قد سُلط عليهم ظلم بيّن.

ترى في أعين الحاضرين وميضًا من التعاطف، وشكًا يتسلل إلى النفوس، فكيف لهذا المسكين أن يكون مجرمًا وهو يحلف بأغلظ الأيمان؟

ولكن، في خضم هذا المشهد، هناك دائمًا من يرى الصورة كاملة، ويدرك أبعادها الحقيقية؛ هناك العقول النيرة والقلوب الواعية التي تميز بين الصدق والادعاء، بين الحق والباطل.

فبعد كل هذا الضجيج، وبعد كل هذه المرافعات الحماسية، وبعد كل تلك الأقسام الكاذبة، يأتي الفصل الأخير، حيث يتجلى وجه الحقيقة الصارخ.

كم من مرة فوجئتُ بالحكم الذي يصدر من قامة العدل، من القاضي الحكيم الذي يحمل بين يديه ميزان الحق، ليُدان من كنت أظن أنه بريء! وبعدها، تتكشف الأمور، وتتوارى الأقنعة، ويُعترف الجاني لأقرانه بما اقترف، ليُهدم كل ما بُني من صور زائفة.

فتلك هيئة المحكمة، التي يرأسها القاضي الذي له من الاسم ما يعكس التزامًا صارمًا بالقانون، والذي يقف بثبات أمام الزحام، مستندًا إلى القانون لا إلى العواطف، هو الذي يمنح العدالة ثوبها الحقيقي.

هذا الرجل الصلب، جنبًا إلى جنب مع زملائه من الحكام الذين لا يتركون مجالًا للشك أو التأويل، صنعوا بقراراتهم جدارًا من الحياد والإنصاف، رغم الأصوات المرتفعة، والادعاءات الصاخبة .. هؤلاء القضاة، الذين يتحلون بصبر الفرسان، استطاعوا أن يميزوا بين الصراخ الخادع والحقائق المغلفة.

فلقد عايشتُ عن كثب تلك اللحظات الفاصلة، وشاهدتُ كيف تُصاغُ الحججُ، وكيف يُلوّنُ المترافعون بأساليب قد تبهر السامع.

ترتفع الأصوات، تُطلق الأيمان المغلظة، وتُردد كلمات البراءة وكأنها حقائق مُطلقة. قد يُخدع البعض بتلك الصورة المصطنعة، فيُخالجهم شعورٌ بأن المظلومية قد حلت بمن يُمثل أمامه.

ولكن، خلف هذا الرونق الظاهري، تكمن حقيقةٌ لا يُمكن إخفاؤها طويلًا. فمهما علت صيحات الادعاء، ومهما زُينت الحجج، يظل جوهر الحقيقة هو الباقي، ولا يُدركه إلا ذوو البصيرة الثاقبة.

كم من مرة رأيتُ المرافعة المُحكمة، التي تُصاغ كلماتها بعناية فائقة، ويُقدّم فيها ممثل الدفاع حججًا قوية، قد يُخيّل للناظر أنها لا تُدحض؛ ويقف المدّعى عليه، مُتضرعًا، مُقسمًا، مُظهرًا كل آيات البراءة.

ولكن، عندما يُسدل الستار، وتُعلن الحقيقة، تتكشف الأمور؛ فما يُعلن في العلن، قد يخالف ما يُعترف به في الخفاء؛ يتضح أن هذا المظهر الزائف لم يكن سوى ستارٍ لجرائم ارتكبتها أيادٍ أثيمة.

أتذكر جيدًا من صدر حكمٌ بحبسه لسنواتٍ معدودات، وقد وقف في قفص الاتهام مُقسمًا بكل ما يملك على براءته، بينما كان وكيله، بأسلوبه الجذاب وصوته القوي، يرفع من شأن دفاعه وكأنه ينسج ثوبًا من الفضائل.

لكن الحقيقة، كما علمتُ، كانت أشد قسوة، فقد اعترف هذا المدان لأقرانه بأنه كان يُخطط لإنهاء حياة من ألقى عليه القبض من رجال سهروا على أمن الوطن، بل وحاول إلقاءه في مجرى النهر العظيم.

وفي مشهد آخر، رأيتُ من يرتدي أثوابًا بالية، يقف في ذات القفص، يقف مُتوسلًا براءته من اختلاس مالٍ عام، يقسم بأنه لم يختلس مليما واحدًا، ويُحكم عليه بثلاث سنوات، ليعترف بعد ذلك لأقرانه بأنه اختلس ملايين الجنيهات، متلاعبًا بأوراق بسيطة.

في لحظة من السخرية، وعلى هامش الجلسات، تتجلى مواقفٌ قد تُظهر جانباً آخر من طبيعة النفوس؛ فبعض المحامين، وفي غمرة الدفاع، قد يُطلق عباراتٍ غير متوقعة، فأحدهم قد طالب جهة القضاء بملاحقة كبار تجار المخدرات وترك صغارهم،.

وكأن العدالة تُجتزأ أو تُنتقى، متناسياً أن العدالة لا تأخذ راحة ولا تعطي فرصًا للمهربين من الحقيقة .. تلك اللحظات، التي كانت مليئة بالجدال والصخب، لم تخفِ الحقيقة التي كانت تُسرد بصمت خلف الأبواب المغلقة.

وموقف آخر لا يقل غرابة، بل أكثر طرافة، لمحامٍ، بعد مرافعة طويلة ومملة، وعندما طُلب منه الإيجاز، كانت حجته أن يتركوا له مساحة من الوقت، ليس استكمالًا لحجته القانونية، بل ليتمكن من الحصول علي أتعابه من موكله!

والأدهى، والأكثر إثارة للاستغراب، ما شاهدتُه من تنافسٍ، فما يحدث بين من يمثلون المتهمين من جانب النقابة العامة للمحامين.

فقد رأيتُ أكثر من مشادة ومنافسة شرسة بينهن، كل واحدة منهن ترغب في الظفر بالوقوف أمام الميزان، ليس دفاعًا عن مبدأ، ولا لتقديم دفاعٍ جوهري، بل للحصول على مكافأة زهيدة، مما يضع مفهوم الدفاع في سياقٍ آخر تمامًا، الأمر الذي كشف جانبًا من واقع مهني يتطلب إعادة تقييم ومسؤولية أكبر.

ولكن، بين هذه المشاهد المتنوعة، يظل هناك ركائز للعدل لا تهتز؛ ففي هيبة القاعة، وفي وقار أصحاب الرداء الأسود، يبرز القاضي الشريف، الذي يحمل اسمه في سماء العلم والاجتهاد.

ومعاونوه الكرام، الذين يحملون من النبل والاجتهاد ما يرفع من قدرهم، وصاحب الوجه المضيء بنور الفهم الثاقب، ورفيقاه اللذان يقفان شامخين، كلٌ منهما يسند الآخر في سبيل الحق.

ومعهم، الأمناء على سجلات الحق، الذين يكتبون التاريخ بحروف من نور؛ هؤلاء هم حماة العدل الذين يقفون سدًا منيعًا أمام كل مظاهر الزيف، يُديرون دفة القضاء بحكمةٍ بالغة، ويُصدرون الأحكام بعين البصيرة، لا تخدعهم الأقاويل، ولا تُبهرهم المظاهر.

لهم كل التقدير والتبجيل، فهم الذين يُعيدون للعدالة هيبتها، ويُعليون من شأنها، لتظل صامدة، قوية، وناصعة البياض.

إن عمل القضاء ليس مجرد تطبيق لمواد القانون، بل هو فهمٌ عميقٌ لجوهر الإنسان، وتحليلٌ دقيقٌ للوقائع، وغوصٌ في أعماق النفس البشرية.

وعندما نرى هذا المستوى من التفاني والنزاهة، يزداد يقيننا بأن العدالة ستظل رايتها خفاقة، وأن الحق سيُعلن دومًا، مهما اشتدت عواصف الباطل.

في كل هذا، أجد نفسي أمام حقيقة لا يمكن إنكارها: العدالة ليست هتافًا ولا صراخًا في القاعة، بل هي قرار حكيم، مشفوع بفهم عميق للحقائق وبعيد عن أي ضجيج يُراد به التشويش.

وهذا بالضبط ما تجسده هيئة المحكمة برئاسة الرجل الذي يحمل اسماً يليق بمن يريد للعدالة أن تكون عادلة، إلى جانبه أركان ثابتة، لا يغيرهم صوت أو مشهد.

وأنا أكتب هذا، لا أريد أن أكون شاهداً على واقع نُسج من الأكاذيب والادعاءات، بل أريد أن أؤكد أن الحق لا يموت، وأن القضاة الذين يتسلحون بالقانون والضمير، هم الحصن الأخير في مواجهة الفوضى؛ كل من حاول أن يخدع المحكمة، لم يفلح، وكل من حاول أن يروج لبريء مزيف، وقفت العدالة لتفضحه.

هذا المقال ليس سوى صوت ينبع من تجربة عايشتها عن قرب، صوت ينادي بالثقة في مؤسساتنا القضائية، التي رغم كل التحديات، تظل الشعلة التي تنير طريق الحق وسط الظلام.

فالعدالة ليست لعبة أدوار، ولا مسرحية تُعرض على جمهور متعطش للدراما، بل هي رسالة وطنية سامية، وأمانة يجب أن تحفظ.

من هذا المنطلق، أؤمن أن الحفاظ على هيبة المحكمة، واحترام القضاة الذين يحملون على عاتقهم هذه الرسالة، هو واجب وطني لا يقبل المساومة؛ وعندما نرى هيئة المحكمة تعمل بجد ونزاهة، نعلم أن الوطن بخير، وأن مستقبل العدالة في أيدٍ أمينة.

وأدعو كل من يشاهد المشهد القضائي من بعيد أو قريب، أن يميز بين الضجيج والصمت، بين ما هو ظاهر وما هو خفي، وأن يؤمن بأن الحقيقة في النهاية، مهما طال الزمن، لا بد أن تُكشف، وأن العدالة مهما تأخرت، تبقى هي السيدة الأولى في مملكة القانون.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى