
يُعد تطوير مشاريع الطاقة المتجددة الكبرى، مثل مشروع محطة الطاقة الشمسية بقدرة 200 ميغاواط في سوريا، نموذجاً عملياً على أهمية تبني الإدارة الاستراتيجية المتكاملة كمنهجية أساسية لإعادة بناء القطاعات الحيوية في بيئات ما بعد الصراع. إن نجاح هذا النوع من المبادرات لا يرتبط فقط بتأمين التمويل أو توريد المعدات، بل يعتمد بالدرجة الأولى على تفعيل منظومة إدارية شاملة تتضمن تحديد الأهداف الوطنية الواضحة، وضع خارطة طريق تشغيلية ، إدارة المخاطر بكفاءة، وضمان التكامل بين جميع أصحاب المصلحة.
وتكمن القيمة المضافة لهذا المشروع في أنه يقدم نموذجاً واضحا لما يمكن أن تحققه القيادة الرشيدة وصناعة القرار المؤسسي حين يتم توظيفها لبناء سياسات طاقية حديثة تدعم السيادة الاقتصادية وتؤسس لبيئة تشغيلية قابلة للتوسع. من هذا المنطلق، تمثل التجربة السورية في إطلاق المشروع فرصة لدراسة العلاقة بين الإرادة السياسية، الحوكمة الإدارية، والإدارة التشغيلية كركائز حقيقية لضمان استدامة المشاريع الاستراتيجية وتحقيق عائد اقتصادي ومجتمعي ملموس.
الطاقة الشمسية: خيار اقتصادي أم ضرورة استراتيجية؟
حين نتحدث عن مشروع طاقة شمسية بقدرة 200 ميغاواط في سوريا، لا نتحدث عن رفاهية تكنولوجية أو استعراض بيئي، هذا المشروع يمثل ضرورة اقتصادية واستراتيجية في بيئة مركبة يعاني فيها الاقتصاد من فجوات حادة بين العرض والطلب على الطاقة، وارتفاع فاتورة الاستيراد، وتراجع الثقة بقدرة البنى التحتية التقليدية على تلبية الاحتياجات، فإن الاعتماد طويل الأمد على الوقود الأحفوري المستورد جعل المالية العامة السورية في وضع حساس. كل كيلوواط منتج محلياً يعني خفض التكاليف التشغيلية للقطاعات الصناعية والزراعية، التي تستنزف طاقتها في تأمين مصادر كهرباء بديلة. ومن هنا، لا يمكن النظر إلى هذا المشروع إلا باعتباره خطوة تأسيسية لإعادة رسم معادلة الاكتفاء الطاقي، وتحقيق سيادة القرار الاقتصادي.
الإدارة الاستراتيجية: من صنع القرار إلى هندسة التنفيذ
أي مشروع بهذا الحجم يتطلب إطاراً إدارياً صارماً يجب أن يقوم على ثلاثة مستويات مترابطة:
صناعة القرار الاستراتيجي: قيادة الدولة اتخذت قراراً واضحاً بأن الطاقة المتجددة ستصبح عنصراً محورياًفي السياسة الاقتصادية. هذا القرار لم يكن محض إعلان نوايا، بل جاء بعد تحليل لتكاليف الفرصة البديلة ومعدلات العائد الاجتماعي والاقتصادي على الاستثمار.
حوكمة المشروع: وهذا ما يبرز أهمية بناء هيكل تشغيلي يضمن التنسيق بين الوزارات والجهات التنظيمية، وتحديث التشريعات لمنح التراخيص وتسهيل التوريد، فغياب الحوكمة سيحول المشروع إلى هيكل غير منتج.
إدارة التنفيذ والتشغيل: الإدارة التنفيذية تركز على تقسيم المشروع إلى مراحل واضحة (التصميم، البناء، التشغيل)، مع تبني مؤشرات أداء دقيقة ومراجعات دورية للمخاطر التشغيلية والتمويلية.
هذا النموذج الإداري يظهر أهمية مواءمة التخطيط الاستراتيجي مع قدرات التنفيذ الواقعية، بحيث لا يصبح المشروع مجرّد إعلان إعلامي، بل قيمة اقتصادية قابلة للقياس.
الرؤية الاقتصادية: الطاقة المتجددة كأداة لاستعادة الثقة والنمو
في بيئة اقتصادية أنهكتها سنوات الصراع، تأتي الطاقة المتجددة لتقدم رؤية اقتصادية تتجاوز مجرد إنتاج الكهرباء، فهي تمنح الاقتصاد المحلي فرصة لإعادة بناء سلاسل القيمة، بالاضافة إلى:
- صناعة الهياكل المعدنية وتركيب الأنظمة
- تشغيل مراكز الصيانة والتدريب
- توفير فرص عمل للكوادر الهندسية والفنية
كذلك، يفتح المشروع نافذة لاستقطاب استثمارات خارجية تبحث عن بيئة طاقية مستقرة، ويمكن القطاع الخاص من المشاركة في مشاريع توسعية مستقبلية، إن ربط مشاريع الطاقة بالسيادة الاقتصادية ليس شعاراً عاطفياً بل ضرورة إدارية واقتصادية، فعندما تنجح دولة في تشغيل مشروع استراتيجي بكفاءة إدارية، فإنها ترسل إشارة واضحة لكل الفاعلين المحليين والدوليين (هذا اقتصاد يتعافى، ويمتلك إرادة الإصلاح وقدرة التنظيم)، كما أنهاضرورة وطنية لخلق فرص عمل مستدامة واستعادة الثقة بالقدرة على البناء.
هذا المشروع الواعد لا يكتفي بتوليد الطاقة، بل يولّد الأمل ويمد جسوراً بين الحاضر المرهق والمستقبل الذي طال انتظاره، في زمن صار فيه الحصول على الكهرباء رفاهية، تأتي الشمس لتؤكد أن الطبيعة كانت دائماً هي الحليف الأقرب للإنسان، وأن الطاقة النظيفة ليست ترفاً بل حقاً وأملاً وسلاحاً ضد العتمة.
مشروع محطة الطاقة الشمسية في سوريا يجسد بوضوح كيف يمكن للإدارة الاستراتيجية المتكاملة أن تتحول من مجرد إطار نظري إلى أداة عملية لصياغة سياسات قطاعية قابلة للتنفيذ والقياس، حيث أن فعالية أي مشروع طاقي لا تقاس فقط بعدد الميغاواط المولّدة، وإنما أيضاً بقدرة الإدارة على تحقيق التكامل بين القرار السيادي، الكفاءة التشغيلية، وتطوير القدرات المؤسسية المحلية.
وبناءً عليه، يمكن اعتبار هذه التجربة مرجعاً لتطوير نماذج حوكمة قطاعية مماثلة في باقي المجالات الحيوية، بما يتيح توسيع نطاق التعافي الاقتصادي وترسيخ مفهوم الإدارة الرشيدة كعنصر حاسم في بناء دولة حديثة تعتمد على مواردها وتديرها بكفاءة.