
(1 – 10) من سلسلة: من الأزمة إلى النهضة… رؤية إنقاذ وطن
تمهيد: ما بين الانسداد والأمل
تمرُّ مصر اليوم بلحظة هي من أكثر اللحظات خطورة وتعقيدًا في تاريخها الحديث؛ لحظة تتقاطع فيها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتتآكل فيها منظومة الثقة بين المجتمع ومؤسسات الدولة، وتتعمق الهوة بين مكوّنات الوطن الواحد.
لكنّ ما يجعل هذه اللحظة أخطر، هو شعور متزايد بأن الأبواب أُغلقت، وأن المسارات الرسمية أُقفلت عمدًا، وأن النظام الحاكم قد اختار طريقًا لا مكان فيه للإصلاح أو المشاركة أو المراجعة. ومع هذا، يبقى الأمل في مصر وشعبها… في قدرتهم على التجدّد، وعلى طرح بديل وطني جامع يعيد رسم المسار من جديد.
من هنا، تأتي هذه السلسلة من المقالات، كمحاولة لطرح رؤية إنقاذ وطني شاملة لما بعد هذا النظام، لا تعوِّل على إصلاحه، ولا تطرح مبادرات لاسترضائه، بل تنطلق من وعي بأن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل المجتمع وقواه الحيّة، وأن المستقبل لا يُنتظر، بل يُبنى بإرادة ووعي وعمل.
أولًا: لماذا “مصر أولًا”؟ وما معنى أن يكون المشروع عابرًا للانقسام؟
في السنوات الماضية، تم تفكيك مفهوم الوطن لحساب الانتماءات الفئوية والضيقة: حزبية، أو أيديولوجية، أو جهوية، أو طبقية. وأصبح كل فصيل يُعيد تعريف مصر على مقاسه، وكأنها غنيمة تُقتسم، لا وطنًا يُبنى.
وحين نقول “مصر أولًا”، فإننا لا نطرح شعارًا إنشائيًا، بل نعلن مبدأً تأسيسيًا لمشروع وطني جديد، يُقدّم المصلحة العامة على المكاسب الخاصة، والهوية الجامعة على الاصطفاف، والاستحقاق الوطني على التقاسم السياسي.
أما حين نقول “مشروع وطني عابر للانقسام”، فإننا لا ندعو لإلغاء التنوع، بل لإدارته بحكمة، وتحويله من صراع يُنهك الجميع، إلى طاقة تُثري المشهد وتُقوّي البناء. مشروع لا يُقصي أحدًا على أساس الموقف أو المرجعية، بل يفتح الباب لكل من يؤمن بمصر دولةً عادلة، حرة، وشاملة.
ثانيًا: الأزمة لم تعد أزمة نظام ومعارضة… بل أزمة غياب مشروع جامع
لم تعد أزمة مصر اليوم قابلة للتوصيف التقليدي: نظام في مواجهة معارضة. بل نحن إزاء أزمة أعمق في بنية الدولة، وفي منطق الحكم، وفي العلاقة بين السلطة والشعب. إنها أزمة منظومة اختارت الإقصاء والاستبداد بدل الإصلاح والانفتاح، وأغلقت المجال العام، وكمّمت الأفواه، وراكمت الديون، وفرّغت مؤسسات الدولة من معناها.
إن النظام القائم قد أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه غير قابل للإصلاح، ولا يمتلك لا الإرادة ولا الرغبة في الانفتاح أو التغيير. لقد سدّ الأفق، وقضى على السياسة، وحوّل البلاد إلى ساحة مغلقة لا مكان فيها لصوت أو اختلاف.
وعليه، لم يعد من المجدي الرهان على تغيير من الداخل، بل بات من الضروري أن ننتقل إلى مشروع يتجاوز هذا الواقع كليًا، وينطلق من خارج المنظومة الرسمية، بأدوات وطنية مستقلة، وبروح جماعية تحمل مسؤولية التأسيس لبديل يعيد الاعتبار للفكرة الوطنية.
ثالثًا: ما الذي نحتاجه لتأسيس مشروع وطني حقيقي؟
إن أي مشروع وطني قابل للحياة، لا يمكن أن ينهض إلا على أربعة أعمدة رئيسية:
1. إرادة سياسية وطنية مستقلة
لا تستمد شرعيتها من الرضا الرسمي، بل من الشارع، وتتحلّى بالجرأة اللازمة لكسر الجمود، والانتقال من منطق السيطرة إلى منطق المشاركة، ومن الأمن الوقائي إلى الأمن الإنساني والمجتمعي.
2. شراكة وطنية واسعة
تستوعب كل من يؤمن بالعمل السلمي، والدستور، وحقوق المواطنة المتساوية. شراكة لا تقصي أحدًا بسبب خلفيته أو مرجعيته، بل تضع مصر فوق الجميع، وتمنح الأولوية لمستقبل الوطن على حساب الحسابات الضيقة.
3. خطاب جامع ورؤية متوازنة
تتجاوز ثنائية “نحن/هم”، وتتجنب لغة التصنيف والتخوين، وتُركّز على القضايا الكبرى التي تمس حياة الناس: الفقر، الجوع، انهيار الصحة والتعليم، وتدهور الكرامة الإنسانية.
4. مرجعية قيمية جامعة
تنطلق من هوية مصر الحضارية والإسلامية، بلا فرض أو قسر، وتؤسّس لنظام يقوم على العدل والكرامة، ويصون سيادة القانون، ويضع الإنسان مركزًا للسياسة والاقتصاد.
رابعًا: القوى الوطنية… أمام لحظة الحقيقة
إن اللحظة التي نمر بها، بما تحمله من مخاطر وتحديات، تفرض على جميع القوى الوطنية الصادقة – على اختلاف خلفياتها – أن تخرج من حالة الانتظار والتردد، وتتحمّل مسؤوليتها التاريخية في صناعة البديل.
ليس مطلوبًا من أحد أن يُعلن التوبة أو يرفع الراية، بل أن نُدرك جميعًا أن لا أحد يمكنه الانفراد بمستقبل مصر. فالنظام قد حسم موقفه من الإصلاح، وأوصد الأبواب، والمجتمع في أمسّ الحاجة إلى قيادة جديدة، وأمل جديد، ومشروع يُعيد بناء ما تم هدمه.
وعلى القوى التي دفعت ثمنًا باهظًا في العقود الماضية، أن تنظر إلى المستقبل لا من زاوية الانتقام أو رد الفعل، بل من موقع البناء والمبادرة، إدراكًا بأن الفراغ لا ينتظر، والوطن لا يحتمل مزيدًا من التمزق.
خامسًا: إلى أين تمضي هذه السلسلة؟
- في الحلقات القادمة، سنطرح محاور هذا المشروع الوطني بأبعادها المختلفة، وسنقدّم رؤى عملية قابلة للنقاش والبناء عليها. ومن بين هذه المحاور:
- • السيادة الوطنية: استعادة القرار المصري من التبعية إلى الاستقلال.
- • العدالة الاجتماعية: من الجباية إلى بناء اقتصاد منتج.
- • الإنسان أولًا: إصلاح التعليم، وتجديد الخطاب، وتمكين الثقافة.
- • العلاقة بين الدولة والمجتمع: من القهر إلى الشراكة والثقة.
- • تجاوز الاستقطاب: نحو ميثاق وطني للحوار والتعايش.
- • خارطة طريق عملية: إجراءات متدرجة لبناء مشروع الإنقاذ دون مغامرات أو فوضى.
خاتمة: مصر ليست ورقة منتهية… بل وطن ينتظر من ينقذه
لسنا في حاجة إلى شعارات جديدة، بل إلى وعي جديد، وإرادة صادقة، ومشروع جامع. وما لم نبدأ اليوم، فمتى؟ وما لم نتجاوز خلافاتنا، فكيف ننهض بوطننا؟ إن مصر لا تحتمل مزيدًا من التأجيل… ولا من الإنكار.
فلنبدأ من حيث اتفقنا:
مصر أولًا… لا شعارًا بل ميثاقًا.
والنهضة ليست حلمًا… بل واجبًا مؤجلًا.
⸻