المجر تفك ارتباطها بالمحكمة الجنائية الدولية في خطوة أوروبية غير مسبوقة

في تحول مفصلي يثير جدلاً واسعًا داخل الأوساط السياسية والقانونية الأوروبية، أعلنت المجر انسحابها الرسمي من المحكمة الجنائية الدولية، لتسجل بذلك سابقة هي الأولى من نوعها بين دول الاتحاد الأوروبي.
القرار، الذي تم التصويت عليه داخل البرلمان المجري في مايو الماضي، يعكس موقفًا متزايد التشدد من جانب حكومة بودابست تجاه المؤسسات القضائية الدولية، ويطرح تساؤلات جوهرية حول التزامات الدول الأعضاء بالمعايير القانونية العالمية.
الخطوة لم تأتِ مفاجئة تمامًا، إذ تندرج ضمن سلسلة من التحركات التي اتخذتها المجر في السنوات الأخيرة، والتي تشير إلى رغبة متنامية في تقليص تبعيتها لمؤسسات دولية تعتبرها متعارضة مع رؤيتها السيادية. ومع أن المحكمة الجنائية الدولية لا تعد ذراعًا من أذرع الاتحاد الأوروبي، إلا أن انسحاب دولة من عضويتها، خاصة من داخل الكتلة الأوروبية، يحمل رمزية سياسية وقانونية تتجاوز مجرد البعد الإجرائي.
وتأسست المحكمة الجنائية الدولية عام 2002 بهدف مقاضاة مرتكبي الجرائم الخطيرة مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وقد وقّعت معظم دول العالم على ميثاق روما المنشئ للمحكمة، بما في ذلك جميع دول الاتحاد الأوروبي، ما جعل الانسجام مع المحكمة أحد المعايير الضمنية لالتزام الدول الأعضاء بسيادة القانون والمعايير الحقوقية.
لكن موقف بودابست يعكس رفضًا متصاعدًا لهيمنة المعايير الغربية التقليدية على النظام القضائي الدولي، حيث عبّرت السلطات المجرية مرارًا عن قلقها مما وصفته بـ “تسييس العدالة الدولية” واستخدام المحكمة كأداة ضغط سياسي ضد بعض الدول، لا سيما تلك التي تسلك مسارات مختلفة عن التوجهات الليبرالية السائدة في أوروبا الغربية.
في المقابل، أثار الانسحاب المجر انتقادات من منظمات حقوقية وخبراء قانونيين رأوا في الخطوة تهديدًا للعدالة الدولية، وفرصة محتملة لإفلات بعض المسؤولين من المساءلة. كما أعربت جهات أوروبية عن خشيتها من أن يشكل القرار سابقة قد تحفّز دولًا أخرى على اتخاذ خطوات مماثلة، ما قد يضعف من هيبة المحكمة وفاعليتها.
ومن الناحية العملية، فإن انسحاب المجر يعني أن المحكمة لن تكون قادرة بعد الآن على التحقيق أو محاكمة مواطنين مجريين في القضايا الجديدة التي تقع ضمن اختصاصها، ما لم يتم تحويلها إليها من مجلس الأمن الدولي. ومع أن المحكمة لم تكن نشطة بشكل خاص في الملفات المتعلقة بالمجر، فإن القرار يحمل دلالة رمزية على تراجع التعاون القضائي الدولي.
وفي ظل تصاعد التوتر بين بعض الدول الأوروبية والمؤسسات الأممية، يرى مراقبون أن خطوة المجر قد تكون جزءًا من تحول أعمق يشهده النظام الدولي، حيث تعيد بعض الدول تعريف علاقتها بالبُنى القانونية العالمية، سعيًا لتعزيز استقلالها القانوني والسياسي.
الأسابيع المقبلة قد تكشف ما إذا كانت هذه الخطوة معزولة، أم أنها تمثل بداية لتوجه أوسع قد يُحدث شرخًا في الالتزامات الأوروبية تجاه العدالة الدولية، ويعيد تشكيل مستقبل المحكمة الجنائية الدولية في ظل واقع دولي متغير.