تصعيد أميركي جديد ضد شركاء روسيا يربك الأسواق ويهدد النظام العالمي

تشهد الساحة الدولية تحولات متسارعة في أدوات النفوذ الجيوسياسي إذ لم تعد المواجهات تُحسم عبر الصراعات العسكرية المباشرة بل انتقلت إلى جبهات اقتصادية معقدة وأكثر تأثيرا على المدى البعيد وتبرز العقوبات الاقتصادية في مقدمة هذه الأدوات وتحديدا العقوبات الثانوية التي تستخدمها الولايات المتحدة لفرض إرادتها على خصومها وخصوم شركائها على حد سواء
ففي يوليو من عام 2025 صعّدت واشنطن إجراءاتها ضد أي كيان يتعامل تجاريا أو ماليا مع روسيا ملوحة بعقوبات ثانوية تشمل منع الوصول إلى النظام المالي الأميركي وفرض غرامات باهظة وإدراج الكيانات المخالفة في قوائم سوداء وتشمل الإجراءات المرتقبة فرض رسوم جمركية تصل إلى 100% على واردات الطاقة الروسية إلى بعض الدول بالإضافة إلى مقترح داخل الكونغرس يرفع الرسوم إلى 500% ويهدد الشركات العاملة في مجالات التكنولوجيا والمعادن بفقدان امتيازاتها داخل السوق الأميركية
هذا التصعيد يأتي في سياق مساعٍ أميركية تهدف إلى عزل روسيا اقتصاديا وحرمانها من شبكات الدعم الدولية غير أن هذه المحاولة تطرح تساؤلات جوهرية حول قدرة العالم على تحمّل كلفة مثل هذه العقوبات خاصة في ظل تعقيدات سلاسل التوريد العالمية وتشابك المصالح بين الدول
الهيمنة الأميركية في هذا الإطار تستند إلى ثلاث ركائز أساسية أولها السيطرة على النظام المالي العالمي عبر الدولار الذي يستخدم في أكثر من 85% من المعاملات التجارية بحسب تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2024 وثانيها التحكم في نظام سويفت الذي يربط أكثر من 11 ألف مؤسسة مالية حول العالم وثالثها تفوق الشركات التكنولوجية الأميركية التي تُعد العمود الفقري للبنية الرقمية العالمية
رغم ذلك فإن العقوبات الثانوية تواجه تحديات حقيقية أبرزها تعقيدات شبكة العلاقات التجارية الروسية إذ ترتبط موسكو باتفاقات تبادل حيوي في قطاعات إستراتيجية مثل الطاقة والأسمدة والمعادن والغذاء ما يجعل فرض عقوبات على من يتعامل معها إجراء محفوفا بالمخاطر ليس فقط لروسيا بل لحلفاء واشنطن أيضا
روسيا تُعد من كبار مصدري النفط حيث تصدر أكثر من 7 ملايين برميل يوميا وتستحوذ الصين على النسبة الأكبر من تلك الصادرات تليها الهند وتركيا والبرازيل كما تُعد موسكو أكبر مصدر عالمي للقمح وثالث أكبر مصدر للأسمدة وأكثر من 13% من سوق الأسمدة المعدنية العالمية تعتمد على الإنتاج الروسي
في قطاع المعادن الاستراتيجية مثل النيكل والتيتانيوم والألمنيوم يمثل الحضور الروسي عنصرا حاسما في الصناعات الثقيلة والإلكترونية والفضائية فيما يبرز قطاع الطاقة النووية بوضوح إذ تسيطر شركة روس آتوم على 46% من سوق تخصيب اليورانيوم عالميا وهو ما يجعل حتى الولايات المتحدة نفسها تعتمد على روسيا في جزء كبير من وارداتها من هذه المادة الحيوية
المخاوف من تأثير العقوبات لا تقتصر على الجانب الاقتصادي بل تمتد إلى أبعاد جيوسياسية أوسع إذ ترى دول عدة أن التوجه الأميركي يعكس نمطا من فرض الهيمنة من جانب واحد دون مراعاة لمصالح شركائها ما قد يعمق الانقسامات الدولية ويدفع مزيدا من الدول إلى الانضمام لتكتلات بديلة مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون التي تروج لنظام عالمي متعدد الأقطاب
الهند على سبيل المثال أعلنت في يونيو 2025 استمرار شراء الطاقة من روسيا رغم الضغوط الأميركية وهو ما يكشف اتساع الهوة بين واشنطن وشركائها التقليديين ويضعف جبهة العقوبات الموحدة التي طالما اعتمدت عليها في إدارة صراعاتها
الأزمة تمتد كذلك إلى الداخل الأميركي حيث تواجه الإدارة تحديات تتعلق بتداعيات هذه السياسات على الشركات متعددة الجنسيات التي قد تتضرر من اضطرابات في سلاسل الإمداد إضافة إلى اعتراضات من الكونغرس وقطاع الأعمال الذين يخشون من ارتفاع تكاليف الإنتاج وخسارة الأسواق الدولية
في ظل هذه المعطيات يبدو أن الرهان على العقوبات الثانوية قد يتحول من أداة ضغط إلى عبء استراتيجي إذ تشير التقديرات إلى أن هذا النهج يسهم فعليا في تسريع انتقال العالم إلى نظام اقتصادي أكثر تنوعا ويقل فيه الاعتماد على الدولار الأميركي ويُضعف أدوات السيطرة التقليدية التي مارستها واشنطن منذ نهاية الحرب الباردة
مراقبون يرون أن العقوبات الأميركية قد تكون بالفعل فعالة على المدى القصير لكنها على المدى البعيد تُسرّع من تآكل النظام العالمي القائم على الهيمنة الأميركية وتفتح المجال أمام ولادة نظام جديد قائم على التعددية في مراكز القوة والقرار الاقتصادي
وبينما لا تزال الولايات المتحدة تملك الأدوات الكافية لفرض إرادتها فإن إدارة هذه الأدوات من دون تنسيق دولي حقيقي قد تنتهي بها إلى عزلة ذاتية يفرضها العالم كرد فعل على السياسات الأميركية نفسها