
اللحظات العظيمة قد لا تولد في ساحات الصخب، بل في الزوايا الصامتة حيث يتحرّك الضمير فجأة.
في مشهد لم يشهد شعارات، وقف شابٌ مصريٌّ في المنفى، اسمه أنس، أمام مبنى القنصلية المصرية في لاهاي ، ووضع أقفالًا على بابها المغلق، كأنّه يقول ما لا يُقال.
نظرة هادئة، وإيماءة رمزية، وعبارة خالدة خرجت منه بهدوء العارفين: “هي مقفولة من عندكم… مش من عندي.”
طحينٌ وبيضٌ نُثرا على الأرض، في فعل احتجاجي صامت، يحمل من الدلالات ما تعجز عنه بيانات المنظمات وخطب السياسيين. تلك الرمزية النقية، الصادقة، جعلت من المشهد لحظة لا تُنسى في ذاكرة الاحتجاج المصري الحديث. مشهدٌ يُعيد تعريف الوطن، والضمير، والانتماء، في زمنٍ ضاق فيه المعنى، واتّسعت فيه الأقفال.
عبقرية أنس، لا تكمن في غرابة الفعل، بل في صدقه، وفطرته، ونقائه من أي حسابات سياسية أو دعائية.
أبدع حين احتجّ بلا ضجيج، وواجه بأدوات بسيطة عجزت أمامها أدوات الأنظمة وأجهزتها ومؤسساتها. عبّر عن ملايين الصامتين، وأعاد صوت غزة من خلف المعابر المغلقة إلى قلب المدينة الهولندية
في ذاكرة هذا الوطن، حكاية أخرى مشابهة.
منذ أكثر من أربعة عقود، خرج فلاح بسيط من قرية بهجور بمحافظة المنوفية، اسمه سعد حلاوة. لم يكن زعيمًا، بل مجرد قلب لا يعرف الصمت. وقف في وجه التطبيع، وصرخ بكلمة واحدة كانت كافية لإرباك المنظومة. وصْفُه النظام بالمجنون، لم يكن إلا اعترافًا ضمنيًا بأن العقل الجمعي كان وقتها هو الجنون ذاته. أطلق صرخة في زمنٍ انخفض فيه سقف الوطنية، وصعدت فيه أعمدة الخضوع.
أنس سار على ذات الخطى، لكن بأسلوبٍ أكثر رمزية، وسلمية، وأشد بلاغة.
لم يرفع صوته، بل أوصل رسالته بصمتٍ موحٍ. جعل من الطحين لغة، ومن الأقفال صرخة، ومن الطرد من الوطن فعلًا يعيد تعريف الانتماء. لم يغضب، بل علّمنا كيف يكون الغضب نبيلاً، راقياً، ومُلهِمًا.
قناة الشرق المصرية المعارضة، وبرنامجها اليومي “إيه الحكاية”، التقطا المشهد، ورفضا أن يمر كخبر عابر.
في حلقة، استضاف البرنامج أنس في أول ظهورٍ تلفزيوني له، ليضع وجهًا للضمير، وصوتًا للغائبين، وروحًا لجيلٍ لم يصدّق أن الصمت هو الخيار الوحيد. اللقاء لم يكن إعلاميًا فقط، بل كان توثيقًا لولادة وعيٍ جديد.
في وجه هذا الشاب، رأينا ملامح مصر الحقيقية…
مصر التي لا تُختصر في مؤسساتها، بل في شعبها. في صوته الهادئ، سمعنا ارتباك السلطة، وتردّد من باعوا القضية باسم الضرورة. في بساطته، فهمنا أن العبقرية ليست في تعقيد الأفكار، بل في قدرة الفكرة على الوصول إلى القلب دون أن تصرخ.
إبداع أنس الاحتجاجي لا يُدرّس في الجامعات، ولا يُدرَج ضمن مناهج السياسة، لكنه يُسطّر في الذاكرة الشعبية كعلامة فارقة.
رسالة تقول: “نحن هنا… وإن أُبعدنا، وإن أُسقطت عنّا الجنسية، أو صادرتنا الجغرافيا، سيبقى الوطن في وجداننا، وسنبقى نحن صوته حين يصمت الجميع.”
في زمنٍ تصير فيه المقاومة جريمة، ويُصبح الضمير ملفًا أمنيًا، ويُختزل الوطن في خريطة صمّاء، يظهر مجنونٌ جميل، يذكّرنا بأن الجنون الحقيقي هو في أن نصمت، ونقبل، ونُطبع، ونُصفق… بلا خجل.
أنس لم يُقفل باب السفارة فقط، بل فتح بابًا كبيرًا في وعينا. فتح نافذة تقول إن شعبًا كهذا لا يُمكن أن يُهزَم، ولا يُمكن أن يُكمَّم. ترك لنا أثرًا يُشبه عبق الوطن حين يُستعاد في لحظة صدق.
تحية لأنس…
تحية لقناة الشرق…
تحية لبرنامج “إيه الحكاية”…
تحية لكل من لا يزال يعتقد أن الوطن ليس أرضًا فقط، بل كرامة، وذاكرة، وضمير.