مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: لا تُسمّوها ثورة… إنه انقلاب 23 يوليو بلا رتوش

إن التاريخ لا يرحم، ولا يبتسم طويلاً للخدع، مهما طال بها الزمن؛ وإنني، كمواطن مصري يؤمن بأن الوطن لا يُبنى على الأكاذيب، أجد نفسي عاجزًا عن الصمت أكثر حيال ما يُطلق عليه زورًا وبهتانًا “ثورة 23 يوليو 1952”.

فهذه الحركة لم تكن ثورة، لا في جوهرها ولا في ظروفها ولا حتى في آثارها؛ بل كانت انقلابًا عسكريًا محضًا، دُبّر بليل، وقاده ضباط في الجيش، بلا أي مشاركة شعبية، ثم سُوّق لاحقًا كحدث ثوري، لأسباب سياسية محضة، ولحاجة النظم الحاكمة المتعاقبة إلى اختراع شرعية لا تملكها.

فلنعد قليلاً إلى تلك اللحظة الفارقة: فجر الثالث والعشرين من يوليو، مجموعة من الضباط تنقلب على النظام الملكي، وتستولي على مؤسسات الدولة، وتفرض حظر التجول، وتصدر بيانات من إذاعة رسمية خاضعة، وتتحرك تحت غطاء المؤسسة العسكرية.

أين الشعب؟ أين الهتاف؟ أين الشوارع التي تفيض بالناس طلبًا للحرية؟ لا وجود لهم؛ لا مظاهرات، لا تحركات شعبية، لا عصيان مدني، لا دماء مهراقة من أجل الخبز والكرامة والحرية؛ لا شيء مما يُعرّف الثورة إلا ما اختلقته أجهزة الدعاية لاحقًا.

لقد آن الأوان أن نتحرر من عقدة يوليو؛ أن نكفّ عن تكرار أسطورة الثورة المجيدة؛ أن نُعيد كتابة التاريخ بعين الناقد لا المُصفق.

لا أحد يُنكر أن مصر كانت تعاني من فساد داخلي وتبعية خارجية قبل يوليو، لكن الرد لم يكن في مصادرة الحرية ولا في استبدال الاستبداد باستبداد آخر.

والحقيقة أن الفارق بين “الثورة” و”الانقلاب” ليس في النوايا، بل في الأسلوب والمضمون والمآلات؛ الثورة تُصنع في الشارع، تقودها الجماهير، تطالب بمطالب واضحة، وتُدفع بأثمان باهظة.

أما الانقلاب فيُصنع في المكاتب المغلقة، في اجتماعات سرية، يُنفذ عبر المدرعات لا الحناجر، وتُحسم نتائجه في ساعات لا في سنوات من النضال.

لقد رأينا في تاريخنا الحديث تسميات مختلفة لحركات التغيير؛ هناك الانتفاضة، وهي عادة ما تكون حراكًا شعبيًا عفويًا، غالبًا ما يكون سلميًا في بداياته، وينبع من رفض لقرار معين أو وضع قائم.

وهناك الحراك الشعبي، وهو مجموعة من التحركات المنظمة أو العفوية التي يقوم بها أفراد أو جماعات من الشعب للتعبير عن مطالب معينة.

أما الهوجة، فهي غالبًا ما تشير إلى حالة من الفوضى أو الاضطراب الشديد، قد تكون مصاحبة لتحركات شعبية أو غيرها.

لكن الثورة تبقى هي اللقب الأسمى، الذي يُمنح فقط للانتفاضات الشاملة التي تغير وجه الأمة من جذورها بإرادتها الحرة.

تأملوا ثورة 1919: خرج الشعب المصري من كافة طبقاته، رجالاً ونساءً، طلابًا وعمالاً، فلاحين ومثقفين، يهتفون للحرية، مطالبين بالاستقلال، في وجه الاحتلال البريطاني.

سالت الدماء، تعطلت حركة القطارات، أُحرقت أقسام الشرطة، وواجه المصريون رصاص الإنجليز بصدور عارية؛ كانت ثورة شعبية حقيقية، بل الوحيدة التي تستحق هذا اللقب في تاريخنا المعاصر.

أما ما حدث في يوليو 1952، فلم يكن إلا حراكًا عسكريًا مغلقًا على قادة مجلس قيادة الثورة، الذين لم يخبروا حتى أفراد الشعب أو الأحزاب الوطنية الكبرى.

بل إن كثيرًا من رموز الحركة الوطنية كُفّت أيديهم بعد الانقلاب، وصودرت الصحف، وحُلّت الأحزاب، وأُخمدت الحياة السياسية باسم “التطهير” الذي لم يكن سوى استبدال استبداد بآخر.

ويكفي أن نعلم أن اسم “ثورة” لم يُطلق على هذه الحركة إلا بعد مرور سنوات، عندما قرر الضباط أن يحصّنوا حكمهم بشرعية “ثورية” مختلقة.

بل إن البيان الأول للحركة لم يأت على ذكر كلمة ثورة أصلًا، وإنما تحدث عن “حركة الجيش” فقط، في اعتراف غير مقصود بحقيقة الحدث.

ولمن يسأل عن الإنجازات، فأقول: لا يُقاس الحدث بتوابعه، بل بجوهره؛ فحتى لو ترتب على الانقلاب إصلاحات، فهي لا تُغيّر من طبيعته.

وإنجازات الإصلاح الزراعي أو تأميم قناة السويس، لا تبرر غياب الديمقراطية، ولا إلغاء الدستور، ولا قمع الحريات، ولا إنشاء الدولة البوليسية التي خنقت المصريين لعقود؛ لا تُبنى الأمم بالقوة، بل بالشرعية الشعبية، ولا يبرر الهدف الوسيلة إن كانت فاسدة.

ومن يصر على تسميتها “ثورة”، فليجب على هذا .. أين كانت إرادة الشعب في اختيار قادته بعد يوليو؟ من منح عبد الناصر الحق في احتكار السلطة وتكميم الأفواه؟ بأي منطق حُلّ البرلمان؟ وبأي عدالة أُلغيت الحياة الحزبية؟ كيف تكون ثورة تحرر وقد وضعت مصر في قبضة حكم الفرد لعشرات السنين؟

إنني لا أكتب من باب النقمة، بل من باب الوطنية الحقة، تلك التي لا تتزين بالشعارات، ولا تخشى مواجهة التاريخ.

لقد آن الأوان أن نتوقف عن توريث الأوهام، وأن نسمّي الأشياء بأسمائها؛ لم تكن يوليو ثورة، بل كانت انقلابًا عسكريًا، أعقبه إعادة هندسة للوعي الجمعي عبر الإعلام والتعليم والتاريخ المزيف، لتصبح الكذبة عقيدة وطنية.

إنني أدعو كل مصري حر، أن يعيد النظر في تاريخه، أن يفتح عينيه على الحقيقة، أن يتحرر من القيود التي فرضتها علينا آلة التزييف الكبرى منذ أكثر من سبعين عامًا.

إن الأمم لا تنهض إلا إذا تصالحت مع حقيقتها، حتى وإن كانت مُرّة. والسكوت على الكذب خيانة، لا للوطن فقط، بل للمستقبل ذاته.

الجيل القادم يستحق أن يُخبر بالحقيقة؛ أن يعرف أن الحرية لا تُمنح من الدبابات، وأن التغيير لا يُفرض من فوق، بل يُنتزع من القاعدة.

وأن ما حدث في 23 يوليو، كان مجرد انقلاب غيّر شكل السلطة، دون أن يمنح الشعب حقه الحقيقي في تقرير مصيره.

لقد آن أوان الصراحة، وإنني لعلى يقين أن التاريخ، مهما طال تزويره، سيعود يومًا ليكتب الحقيقة بحروف لا تقبل المحو: لم تكن ثورة، بل انقلابًا، ولن تُبنى مصر الحديثة إلا على أساس من الحقيقة.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى